الثلاثاء، 20 أكتوبر 2015

عبد الرزاق العساوي،إقامة المغاربة بجبل طارق خلال القرن 19م


تقديم عام : تخضع المجتمعات البشرية في تنظيمها إلى قواعد قانونية، تهدف إلى توجيه سلوك أفراد المجتمع الإنساني نحو تحقيق المصلحة العامة، المتمثلة في بناء مجتمع منظم ومتناغم يضمن الاستقرار و الاطمئنان لمختلف أفراده. ويختلف مفهوم القانون من مجتمع إلى آخر حسب مرجعياته الأساسية، فهناك مجتمعات تعتمد على قوانين وضعية هي إفراز لسيرورتها التاريخية، وذلك في إطار ما يعرف بالقانون المدني كما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول الأوربية، وبالمقابل نجد مجتمعات ترتكز قوانينها على مبادئ دينية، مثل المجتمعات الإسلامية التي تستند على ما يعرف بالشريعة الإسلامية . 

 وقد طرح هذا الاختلاف في مفهوم القانون بين هذه المجتمعات مشاكل قانونية جمة، تزايدت حدتها و بشكل كبير منذ القرن 19م، الذي سجل تصاعدا في وثيرة العلاقات بين الشعوب الأوربية والإسلامية، مما استدعى ضرورة عقد معاهدات سياسية وتجارية، كان هدفها الأساسي حماية مصالح الطرفين المتبادلة، وإيجاد صيغ قانونية لمسألة إقامة رعايا الطرفين بأراضي بعضهما البعض. غير أن هذه الاتفاقيات والمعاهدات، وإن استطاعت من جهة وضع قاعدة قانونية للعلاقات بين الشعوب الإسلامية والأوربية، فإنها اصطدمت من جهة أخرى بصعوبة التوفيق بين الترسانتين القانونيتين المعتمدتين في كل من البلدان الأوربية و الإسلامية، مما أثار مشاكل قانونية أمام إقامة رعايا الطرفين، وإن اختلفت هذه الحدة حسب خصوصية كل ترسانة ومدى قابليتها للتكيف. 

وبناء على ما سبق ذكره واجه المغرب ـ باعتباره جزء من العالم الإسلامي ـ مشاكل قانونية متعددة خلال القرن 19م، بفعل تزايد علاقاته مع الدول الأوربية التي أصبحت لها تمثيلية داخل الأراضي المغربية ضمت القناصل والتجار، كما أصبح المغاربة بدورهم يقيمون بالأراضي الأوربية متجاوزين الأطر الدينية التقليدية التي حكمت مسألة إقامة المسلم بأوربا طيلة القرون السابقة . ومن خلال هذه المقال سنركز على مسألة إقامة المغاربة بصخرة جبل طارق وإشكالاتها القانونية، وذلك اعتبارا لأهمية الصخرة التي شكلت محطة تجارية أساسية لأوربا خلال القرن 19م، و صلة وصل بين أوربا والمغرب، وسنتطرق إلى هذه الإشكالية من خلال طرح ثلاثة تساؤلات أساسية: 

• كيف حدث التحول في مسألة إقامة المغاربة المسلمين بأوربا؟ • كيف حاول المغرب الاستجابة لهذا التحول من خلال ترسانته القانونية ؟ • إلى أي حد استطاع المغاربة الاندماج داخل المجتمع الجبلتاري؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، فقد ارتأينا تقسيم مقالنا إلى ثلاثة محاور أساسية :  المحور الأول: سنتطرق خلاله إلى الأطر الدينية المنظمة لمسألة إقامة المسلم بأوربا قبل القرن 19م.  المحور الثاني: سنتناول خلاله دور صخرة جبل طارق في تهذيب الأطر الدينية التقليدية الخاصة بمسألة إقامة المسلم بأوربا.  المحور الثالث: سنخصصه لموضوع إقامة المغاربة بصخرة جبل طارق بين تمثلات الشريعة الإسلامية والقانون المدني البريطاني.

 I ـ الأطر الدينية المنظمة لمسألة إقامة المسلم بأوربا قبل القرن19م: خضعت مسألة إقامة المسلم بأوربا قبل القرن 19م للقواعد الإسلامية المنظمة لعلاقة المسلم بغيره والمبنية بالأساس على مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية. فقد بنى المسلمون علاقاتهم مع الآخر على معطيات موقفه وسلوكه تجاه الله، ومن هنا جاء ذلك المفهوم الذي طبع تاريخ العلاقات بين الإسلام و الأجانب والمتمثل في دار الحرب ودار الإسلام. 1. المفهوم من الناحية الفقهية: يقصد بدار الإسلام في الاصطلاح الفقهي كل مكان ظهرت فيه الشهادتان والصلاة، ولم تظهر فيه خصلة كفرية إلا بجوار، أما دار الكفر فكل مكان لا يستطيع المسلم فيه إعلاء الشهادتان وإقامة الصلاة و يسيطر فيه المشركين حيث تكون لهم الغلبة و القوة . إذن من خلال هذا التعريف يشترط في دار الحرب توفر الشروط التالية : 
1 ـ أن تكون الأكثرية من الكفار، أي غير المسلمين على الإطلاق. 2 ـ أن تتبع في قوانينها المنهج الكافر، أي غير الإسلامي، سواء على مستوى الدولة أو الشعب. ومن ثم فحرصا على مبدأ قدرة المسلم على إقامة الشريعة الإسلامية، جاءت دعوات الفقهاء المسلمين الأوائل إلى ضرورة الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، واعتبروا ذلك جهادا لا يقل عن باقي أنواع الجهاد الأخرى مرتكزين في حكمهم على عدة آيات وأحاديث نبوية . والأكيد أن الفقهاء المسلمين الأوائل قد بنوا حكمهم على المرجعية الرمزية الأساسية للمسلمين والمتمثلة في الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة خلال فترة بداية الإسلام، غير أنه مع تزايد مساحة الدولة الإسلامية وانفتاحها على مجموعة من الشعوب ظهر نوع من الاهتمام بمسألة الأخر غير المسلم في الفقه الإسلامي، وهذا ما ترجمه ظهور ما سمي بفقه السيّر الذي اشتهرت به مدرسة العراق الفقهية بزعامة الإمام أبو حنيفة)699م ـ802م) وتلامذته مثل: محمد بن الحسن الشيباني )750 م ـ805م ) وأبو يوسف القاضي )731م ـ798م). 
وقد عرفت مدرسة العراق بغزارة تأليفها في موضوع العلاقات بين المسلمين وغيرهم سواء داخل أرض الإسلام أو خارجها حيث أضافت مفهوما آخر هو دار الهدنة أو دار العهد، وهي بلاد غير إسلامية عقد أهلها الصلح مع المسلمين، كما تميزت هذه المدرسة بنزوعها نحو الاجتهاد في اتخاذ الأحكام، و يظهر ذلك بوضوح من خلال رأي أبو حنيفة في مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية، فهو يرى أنها ينبغي أن تطبق على المسلمين فقط داخل الدولة الإسلامية، ذلك أن الدولة الإسلامية لها الولاية على أتباعها ضمن حدودها الجغرافية فقط . أما بقية المذاهب الإسلامية الأخرى، فأنها لم تول اهتماما كافيا لمسألة علاقة المسلم بغير المسلم، وظلت إشاراتها قليلة وهي تنصب في اتجاه التمسك بمواقف الفقهاء المسلمين الأوائل، حيث رأى فقهاء الشيعة والمالكية والشافعية والحنبلية أن خضوع المسلم للشريعة الإسلامية ضرورة أساسية، سواء كان المسلم داخل الدولة الإسلامية، أو خارجها. 

2. المفهوم من الناحية التاريخية: خلال فترة العصر الوسيط لم يهتم المسلمون بأوربا لأنها كانت في وضعية لا تخيفهم، وخضع منطق علاقاتهم معها بدوره إلى منطق المنظور الديني السالف الذكر، فقد لاحظ برناند لويس الاختلاف الموجود بين الإسلام والغرب، وأرجع ذلك إلى منطق التمييز بين العالمين حيث يقول: "... إذا كان الإسلام هو المحدد الأساسي لتحديد الهوية الإسلامية في علاقته مع الآخر، فإن الغرب تعود أن يميز بين الناس حسب معايير أخرى كالانتماء القومي أو الترابي.." غير أنه من الصعب الحكم على التجربة التاريخية للإسلام انطلاقا من القولة السالفة الذكر لأن ذلك سيكون من باب التعميم الذي يتنافى مع واقع الممارسة التاريخية الإسلامية التي تميزت بمعطيات وخصوصيات اختلفت حسب الزمن والمكان. ومن المعطيات التي ينبغي استدعاؤها عند تحليلنا لهذه القولة مسألة المذاهب الإسلامية وتراكمها الفقهي في هذا الباب والذي كان له انعكاس كبير على الممارسة التاريخية لكل دولة من دول الإسلام. 

بناء على ما سلف ذكره تميز التاريخ العثماني بنوع من الانفتاح في علاقته الخارجية مع الدول غير الإسلامية كما تعكس ذلك الاتفاقيات الموقعة بين العثمانيين والأوربيين، خاصة خلال فترة حكم السلطان سليمان القانوني )1521م ـ 1566م) الذي منح عدة امتيازات للأوربيين بالدولة العثمانية. أما اذا عدنا إلى التاريخ المغربي، نجد أنه خص المفهوم بمكانة خاصة على غرار العالم الإسلامي خاضعا في ممارسته السياسية مع الدول الأوربية للمذهب المالكي كما توضح ذلك إحدى النوازل الفقهية خلال القرن 15م، ونخص بالذكر هنا نازلة الونشريسي التي ضمنها في كتابه المعنون ب" أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى و لم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر"، وهي فتوى أصدرها الونشريسي انطلاقا من سؤال لأحد الفقهاء حول الموريسكيين الذين هاجروا من الأندلس إلى المغرب بعد سقوط غرناطة، وعقب صدور قرار الملك الإسباني فيليب الثالث سنة 1609م القاضي بطرد الموريسكيين من الأندلس. لقد أوضح الونشريسي أن هذه الهجرة واجبة على جميع الموريسكيين، بعدما ضاعت دار الإسلام وسقطت في أيادي الكفار، معتمدا في ذلك على آيات وأحاديث وفتاوي الفقهاء السابقين. وحول سؤال في نفس النازلة حول أحد الموريسكيين الذي يرغب في العودة إلى الأندلس لعدم رضاه بواقعه في المغرب فقد اعتبر الونشريسي ذلك بمثابة معصية أحكام الدين الإسلامي، لذا فقد أفتى بعدم جوازها . وظل مفهوم دار الإسلام ودار الكفر حاضرا في الذهنية المغربية طيلة القرنين 17م و18م، كما تعكس ذلك البعثات التي أرسلها السلاطين المغاربة إلى أوربا مثل بعثة ابن عثمان إلى اسبانيا سنة 1779م، والتي كانت محددة من حيث المدة الزمنية وكان صاحبها محكوما بخلفيات دينية مبنية بالأساس على المفهوم السالف الذكر، وهذا ما يظهر بوضوح من خلال مواضيع مؤلفاته . وفي القرن 19م نسجل حضور المفهوم بشكل قوي في الكتابات التاريخية والفقهية، فإذا أخدنا مثلا البلغيثي فانه يذكر: ".. أن ما يفعله التجار من السفر إلى أرض الحرب للتجارة هو أمر ممنوع لأنه يؤدي لمشاهدة مناكر الكفار والتذلل لهم والدخول تحت حكمهم ..." هذه إذن كانت نبذة سريعة عن القواعد المنظمة لمسألة إقامة المسلم بأوربا، والتي حاولنا من خلالها التطرق إلى المفهوم من الناحية الفقهية وانعكاساته على الواقع التاريخي الإسلامي، ثم المغربي حيث أوضحنا مدى حضور هذا المفهوم في الممارسة التاريخية المغربية تجاه أوربا، غير أنه مع بداية القرن 19م عرف المغرب تحولات مهمة في علاقاته مع الدول الأوربية خاصة بريطانيا، وقد كان لذلك انعكاس كبير على مفهوم دار الإسلام ودار الكفر. فكيف ثم ذلك؟ 

II ـ صخرة جبل طارق ودورها في تهذيب الأطر الدينية التقليدية للمغرب الخاصة بمسألة إقامة المسلم بأوربا خلال القرن 19م: 

1. الموقع الجغرافي والتطور التاريخي: تقع صخرة جبل طارق في أقصى شبه جزيرة إبيريا على منطقة صخرية متوغلة في البحر الأبيض المتوسط، تقدر مساحته ب 1500 ياردة وهي تمتد على طول يصل إلى خمسة أميال، في حين يتجاوز عرضها أربعة أميال، وتتميز مياهها بعمق كبير، ومما زاد من أهمية صخرة جبل طارق عامل قربها من الضفة الجنوبية للمتوسط حيث لا تفصلها عنها إلا كيلومترات قليلة، ومن ثم فهي تشكل مضيقا استراتيجيا يسمح للقوة التي تستقر به بمراقبة مختلف التحركات والعمليات البحرية بالمتوسط . ويرجع أصل تسمية جبل طارق إلى القائد الإسلامي طارق بن زياد الذي فتح المنطقة سنة 711م، بعدما كان الجبل يحمل سابقا تسمية Le Mons Calpe، ثم استقرت التسمية خلال العصر الحديث على اسم جبلتار Gibraltar. مر جبل طارق بعدة مراحل تاريخية، فقد خضع لعدة قوى سياسية منذ فجر التاريخ، ذلك أن الجبل شكل نقطة ارتكاز لكافة الشعوب التي مارست الملاحة البحرية بالحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، مثل الفينيقيين و الرومانيين مرورا بالمسلمين والإسبان، ووصولا إلى البريطانيين الذين تمكنوا من دخول حلبة الصراع حول المتوسط بفضل استقرارهم بالصخرة منذ بداية القرن 18م، عقب الحرب الإسبانية حول العرش، ثم تدعم وجودهم بالصخرة قانونيا عقب معاهدة أتريخت Utrecht لسنة 1713م التي نصت على ملكية الصخرة من لدن البريطانيين. وقد ظلت الصخرة طيلة القرن 18م بمثابة حصن وبرج اعتمده البريطانيون لمراقبة حوض البحر الأبيض المتوسط، غير أن الصخرة تجاوزت هذا الدور خلال القرن 19 م عندما أصبحت مركزا تجاريا مهما بغرب البحر الأبيض المتوسط يقصده التجار من كل حدب و صوب، كما أنها أضحت تعج بمختلف أنواع السلع، وتتحكم في الأسعار المتوسطية وحركة انتقال السلع بين مختلف الموانئ المتوسطية، وفي مقدمتها المراسي المغربية .

 2. التجارة المغربية في القرن 19م قراءة في التحول : شهد القرن 19م تحولات تجارية مهمة حيث تزايدت المبادلات التجارية العالمية نتيجة ظهور قوى اقتصادية كبرى، أفرزتها ظاهرة الامبريالية، ونقصد هنا بالخصوص فرنسا وبريطانيا اللتين عملتا على اكتساح الأسواق العالمية من خلال فرض معاهدات غير متكافئة على الدول الضعيفة بإفريقيا وأسيا. وقد أدرك المغرب مبكرا أن مواجهة الامبريالية الأوربية تقتضي بضرورة الانخراط في التحولات الاقتصادية للقرن التاسع عشر من خلال الأخذ بالنماذج التجارية الأوربية، حيث أضحى المخزن أكثر اهتماما بالتجارة الخارجية، وذلك بالاعتماد على فئة من التجار كوسطاء بينه وبين الدول الأوربية في إطار ما عرف بتجار السلطان، وقد تشكل هؤلاء التجار من المسلمين واليهود. و أدى هذا التوجه الجديد للمخزن إلى نمو التجارة الخارجية المغربية، ونمو فئة جديدة من التجار الذين أصبحوا مضطرين إلى الإقامة بالموانئ الأوربية لمدة طويلة خاصة بجبل طارق، وذلك بهدف تسيير تجارتهم، مما فرض على المغرب تعيين قنصل دائم بالصخرة انطلاقا من 1815م، وذلك ضمانا لمصالح التجار المغاربة . 

3. القناصل المغاربة بصخرة جبل طارق خلال القرن 19م كان يتم اختيار القناصل المغاربة بصخرة جبل طارق من لدن السلطان، وهم في الغالب تجار كبار مقيمين بالصخرة بهدف تسيير أعمالهم التجارية، فيضيفون إلى ذلك تسيير تجارة السلطان كما يعملون على قضاء مصالح التجار المغاربة الآخرين حيث يقومون بتسهيل الصادرات والواردات إلى المغرب، إلى جانب ذلك كانوا يراقبون القروض التي يمنحها السلطان لتجاره بالصخرة، فضلا عن تمثيل الدور التجارية المغربية بجبل طارق، وأحيانا يمنحون قروض للتجار المغاربة، من واجباتهم كذلك ضمان مصالح التجار المغاربة بالأبناك الأوربية وحماية مصالحهم لدى شركات الملاحة البحرية . إلى جانب ذلك كان القناصل المغاربة يتكلفون بمراقبة إقامة المغاربة وجوازات سفرهم وحل بعض المشاكل المرتبطة بمرور الحجاج المغاربة بالصخرة، والنظر في المشاكل المرتبطة بتركات المغاربة بالصخرة. إذن من خلال هذا المحور نسجل التحول الذي عرفته مسألة إقامة المغاربة خاصة المسلمين بأوربا، حيث تجاوز المغرب مفهوم دار الإسلام ودار الكفر، وذلك تحت ضغط التحولات التجارية التي حفل بها القرن 19م، حيث بادر المغرب إلى تهذيب الأطر الدينية السالفة الذكر التي حكمته طيلة القرون السابقة، وذلك من خلال تعيين قناصل له بجبل طارق، فهل جسدت الاتفاقيات الموقعة بين المغرب وأوربا خاصة مع بريطانيا هذا التحول؟ III ـ إقامة المغاربة بصخرة جبل طارق خلال القرن 19م: بين واقع القانون المدني البريطاني وتمثلات الشريعة الإسلامية:
 1. قراءة في الاتفاقيات المغربية ـ البريطانية: تميزت العلاقات المغربية البريطانية بقدمها وعراقتها ،غير أن الاهتمام الكبير للبريطانيين بالمغرب برز وبشكل واضح بعد الاستقرار البريطاني بصخرة جبل طارق في بداية القرن 18م، حيث سارعت بريطانيا إلى حث المغرب على التوقيع على معاهدات ضمانا لوجود حاميتها بصخرة جبل طارق، وكذا نفوذها التجاري بالمنطقة من خلال ضمان الإقامة للتجار البريطانيين بالموانئ المغربية، ومن ثم فقد جاء إبرام عدة اتفاقيات كان في مقدمتها اتفاقية 1721م التي اشتملت على 15 مادة جلها صبت لصالح بريطانيا . من خلال اشتغالنا على الاتفاقيات الموقعة بين المغرب وبريطانيا نسجل مجموعة من الملاحظات: • على مستوى الشكل:  أولا نلاحظ أن المغرب وقع على ست اتفاقيات مع بريطانيا طيلة القرنين 18م و19م.  ثانيا نشير أن كل معاهدة ارتكزت على بنود التي سبقتها، حيث كان يتم تجديد البنود، وأحيانا إضافة بنود جديدة حسب المستجدات. • على مستوى المضمون :  أولا؛ نلاحظ أن بنود الاتفاقيات تتطرق إلى مواضيع محددة، مثل التجارة وافتكاك الأسرى، والحقوق القضائية للرعايا الإنجليز والمغاربة والقرصنة .  ثانيا؛ نلمس حضور قوي للبريطانيين عبر بنود هذه الاتفاقيات، حيث تشير مختلف البنود إلى امتيازات البريطانيين في الموانئ المغربية، تفاديا لكل ضرر يمكن أن يلحق بأحد الرعايا البريطانيين، أما الحضور المغربي فيبقى من باب الإلحاق في بعض البنود .  ثالثا؛ نسجل تركيز بريطانيا في بنود الاتفاقيات على مسألة إقامة رعاياها في المدن والمراسي المغربية، حيث تضمن لهم عدة حقوق قضائية ومدنية، مثل حل مشاكلهم القضائية وفق القانون البريطاني، إضافة إلى حرية التنقل، والسفر، والإقامة، والتعبد، وحل مشاكل التركة في حالة الوفاة في المغرب . أما مسألة إقامة المغاربة على الأراضي البريطانية، فإذا ما استثنينا المادة الأولى من معاهدة 1728 التي تنص على تحديد مدة إقامة المغاربة بصخرة جبل طارق في شهر واحد، مع عدم إمكانية إقامة المغاربة لسكنى دائمة بالصخرة، وهو بند يصب في مصلحة بريطانيا، نلاحظ أن باقي الاتفاقيات لم تخص المسألة بالعناية الكافية، هناك فقط بعض الإشارات غير الواضحة التي تضمنتها اتفاقية 1801م في السطرين الأخيرين من شرطها الثامن الذي ينص على ما يلي: "... أنه إذا وقع نزاع بين المسلمين وبين الإنكليز، وتعين الظلم في ذلك على واحد منهما، فينظر في ذلك المسلمون والنصارى بالتساوي على حكم قانون الانكليز، إن لم يخالف شرع المسلمين ...". من خلال هذه القراءة السريعة، نلمس مدى خبرة و دهاء البريطانيين الذين عملوا على إيجاد أرضية قانونية لمسألة إقامة رعاياهم بالمغرب، دون اصطدامهم بواقع الترسانة القانونية المغربية المعتمدة وقتئذ على الشريعة الإسلامية، في حين ظل المغرب عاجزا عن مواكبة التحول في العلاقات الدولية، من خلال تجاوز خلفياته الدينية وطرح مسألة إقامة رعاياه بالموانئ البريطانية، خاصة بميناء جبل طارق على طاولة التفاوض مع البريطانيين أثناء التوقيع على الاتفاقيات، مما كان سيوفر قاعدة قانونية واضحة تمكن قناصله بالصخرة من حل مختلف المشاكل القانونية التي تعترض المغاربة بالصخرة أثناء ممارسة نشاطهم التجاري. 2. نماذج من مشاكل إقامة المغاربة بصخرة جبل طارق • قضية محمد بن عمر بجة عين محمد بن عمر بجة قنصلا للمغرب بجبل طارق سنة 1815م ، كان من كبار تجار نهاية القرن 18 وبداية القرن 19م ،غادر مسقط رأسه العرائش عند أواسط فترة حكم سيدي محمد بن عبد الله ) 1757ـ1790(، واستقر بمدينة قادس حيث كان يزاول نشاطه التجاري. وقد شكل محمد بجة مثالا لفئة جديدة من التجار المغاربة الذين ارتبطت مصالحهم التجارية بالتبادل التجاري بين المغرب وأوربا خاصة بعد منتصف الفرن 18م، وكان من التجار الذين حققوا نوعا من النجاح كما تؤكد ذلك الثروة التي خلفها بعد وفاته بجبل طارق سنة 1820، وقدرت حسب ـ محمد المنصورـ بخمسة وعشرين ألف جنيه أسترليني . و أحدثت وفاة محمد بجة أزمة قانونية بين المغرب وبريطانيا، ذلك أن القنصل المذكور توفي تاركا خلفه ممتلكات بجبل طارق دون أن يترك وريثا، لذا فقد كتب السلطان المولى سليمان )1792ـ1822( إلى جورج دونGeorge Don حاكم جبل طارق مدعيا استحقاقه لكل ميراث بجة طبقا للشريعة الإسلامية، في حين رأت سلطات جبل طارق أنه طبقا للقانون البريطاني تؤول ممتلكات المتوفى الذي لم يخلف وريثا إلى التاج البريطاني، غير أن السلطان لم يقبل بذلك وتمسك بادعائه ووصلت المسألة إلى الطريق المسدود. ولم يتوقف النزاع وظل الحديث يتردد حول ممتلكات محمد بجة حتى تم تسوية القضية بشكل نهائي خلال فترة المولى الحسن) 1873ـ 1894 ( .
 • المشاكل المرتبطة بإقامة الشرائع الإسلامية: طرحت عدة قضايا أمام المغاربة بجبل طارق خلال القرن 19م، من أبرزها مسألة الاحتفال بعيد الأضحى، فمن خلال وثائق عائلة الرزيني نجد مثلا مراسلة من سلطات جبل طارق إلى القنصل المغربي الحاج محمد الرزيني تعلمه بعدم جواز ـ طبقا للقانون البريطاني ـ ذبح أضحية العيد بمنزله، وذلك ضمانا لحقوق جيرانه، كما نجد مراسلات عديدة تلقاها القناصل من المغرب تخبرهم بأوقات الصلاة الخمس، حيث لم يكن بالصخرة إمام أو ميقاتي يمكنه القيام بهذا العمل، وذلك إلى حدود بداية القرن العشرين إذ أصبح بالصخرة إماما لإقامة الصلاة، وهو محمد بن حمادي بناني الذي كان والده تاجرا في مدينة مانشستر . 
• المشاكل المرتبطة بالمعاملات التجارية: كان مغاربة جبل طارق يصطدمون بواقع المعاملات التجارية بصخرة جبل طارق الخاضعة لتنظيمات مدنية، لذا فقد كان المغاربة يقدمون على بعض الممارسات التجارية من قبيل التأمينات والقروض واستعمال تقنيات التجارية الحديثة، مثل الشيك والسفتجة بنوع من التوجس والخوف، خاضعين في ذلك إلى الخلفيات الدينية المتراكمة في بنيتهم الذهنية . فنادية الرزيني تذكر أن تاجرا اسمه محمد المرابط مقيما بالصخرة كان يطلب من الله المغفرة والعفو بمناسبة إقدامه على كل عملية تجارية . خلاصة: تمكن المغرب خلال القرن 19م من تجاوز أطره الدينية التقليدية الخاصة بمسألة إقامة المغاربة، إذ أصبح بإمكان المغاربة الإقامة بصخرة جبل طارق، وذلك انسجاما مع التحولات التي كان يعرفها العالم وقتئذ، غير أن المغرب لم يستطع إحداث القطيعة مع ممارساته السياسية التقليدية، إذ لم يبادر إلى إيجاد قاعدة قانونية صلبة لهذه الإقامة على غرار ما فعلته الدول الأوربية، مثل بريطانيا التي ناورت بكل خبرتها من أجل إيجاد إطار قانوني وفق منظورها القانوني لإقامة رعاياها على التراب المغربي، وهذا ما حققته، في حين ظلت إقامة المغاربة بصخرة جبل طارق طيلة القرن 19م تطرح مشاكل قانونية، جمة خاصة عندما يحدث التعارض بين القانون المدني الإنجليزي والشريعة الإسلامية . عبد الرزاق العساوي ـ حاصل على دكتوراة في التاريخ، جامعة محمد الخامس الرباط.
الاحالات المرجعية:
1. لؤي صافي، العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، إصدارات المعهد العالمي للفكر الاسلامي:سلسلة الحوار44، الطبعة الثالثة، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، 2001، ص.151ـ152.
2.عبد المجيد القدوري، المغرب وأوربا مابين القرنين الخامس عشر والثامن عشر: مسألة التجاوز، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000، ص.305.
 3 حسين بن عودة العوايشية، الفصل المبين في مسألة الهجرة ومفارقة المسلمين، سلسلة فقه الدعوة وتزكية النفس15، دار ابن حزم، 2003، ص. 22.
 4 استند الفقهاء في حكمهم على عدة آيات منها نذكر حديث الرسول الذي بقول فيه: " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركينٍ".
 5 عبد المجيد القدوري، مرجع سابق، ص. 309.
 6 وهو أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني، أبو العباس العالم العلامة، حامل لواء المذهب المالكي، ولد سنة 1428هـ، أخذ من علماء تلمسان كالإمام محمد بن العباس والعالم الخطيب الصالح ابن مرزوق، من أهم مؤلفاته: "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس والمغرب"، توفي سنة 1508هـ .
 7جاء في السؤال أن هذا المورسكي قال على جهة الإنكار للهجرة إلى دار الإسلام :"إلى ها هنا يهاجر من هناك ؟بل من هنا تجب الهجرة الى هناك".
 8 عبد المجيد القدوري، سفراء مغاربة في أوروبا 1610-1922: في الوعي بالتفاوت، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط،1995، ص. 27-28.
 9ونخص بالذكر هنا كتابه المعنون ب :"الإكسير في فكاك الاسير".
 10 تحدث عن ذلك في كتابه:" بيان الخسارة " للمزيد من التفاصيل انظر:عمر أفا ،التجارة المغربية في القرن التاسع عشر :البنيات والتحولات 1830ـ1912 ، دار الامان، الرباط، 2006، ص. 210.
 11 Bathilde Larsonneur, Histoire de Gibraltar, Collection :que –sais-je ?Presse Universitaire de France,n.674,1955.p 5. 12 J.L.Miege,Le Maroc et l Europe (1822-1906),t2,Ed laPorte,Rabat,1989 ,pp.65-69.  
13.محمد المنصور، تجار السلطان، معلمة المغرب، ج07، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، سلا، 1989-2005، ص. 2279.
 14- Nadia Erzini, Hal Yaslah li-Taqunsut, is he suitable for Consul ship ? The Moroccan Consuls in Gibraltar during the nintheenth Century, in the Journal of North, African studies ,vol, 12, n 2007, p 518. 
15روجرز، تاريخ العلاقات الانجليزية ـالمغربية حتى سنة 1900،ترجمة يونان لبيب رزق، الدار البيضاء، 1981، ص. 32ـ36. 16 Hopkins,F.P,Letters from Barbary 1576-1774.Arabic Documents,in the Public Record Office.Oxford University Press,1982,PP .46-50.
17 للاطلاع على هذه الاتفاقيات انظر:عبد اللطيف الشاذلي،نصوص واتفاقيات دولية مبرمة بين المملكة المغربية ودول أجنبية، الجزءان 2و3، المطبعة الملكية، الرباط،2006 ـ2007.
 18 انظر بنود الاتفاقية الموقعة بين المغرب وبريطانيا سنة 1801 ضمن المرجع أعلاه، ص. 199ـ220.
 19انظر الشرط الثامن من المعاهدة أعلاه.
 20 انظر المعاهدة المغربية البريطانية لسنة 1856 ضمن كتاب عبد اللطيف الشاذلي السالف الذكر، ص.379ـ402.
 21عبد العزيز السعود ،تطوان في القرن الثامن عشر: السلطة ـ المجتمع- الدين، منشورات جمعية تطاون أسمير، تطوان، 2007،ص.150 ـ151.
 22 محمد المنصور، بجة محمد بن عمر، معلمة المغرب ، ج04، ص 1038.
 23 محمد المنصور، المغرب قبل الاستعمار :المجتمع والدولة والدين (1792-1822)، ترجمة محمد حبيدة، المركز الثقافي الغربي، 2006 ،ص89ـ90. 
 Nadia Erzini, op.cit, pp 524-525.  
25عبد القادر الرزيني ،وثائق عائلة الرزيني حول تطوان ، ضمن أعمال ندوة تطوان قبل الحماية، مجموعة البحث في التاريخ المغربي والأندلس، تطوان، 1994، ص.
 10-20.  26Nadia Erzini ,British-Moroccan Relations in the first half of 19thCentury from the Perspective of the Erzini Archive ,Revue d’Histoire Maghrébine ,n.105,2002,pp 94-95. 27عمر أفا، مرجع سابق، ص.209ـ210. 28 Nadia Erzini, op.cit, p 525.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق