الخميس، 31 ديسمبر 2015
الأربعاء، 30 ديسمبر 2015
الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015
بوشتى عرية، ثقافة المرض والتطبيب لدى المغاربة من خلال كتاب : الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912- 1945
1- ثقافة المرض وأنواعه. المرض كما عرفه مؤلف الكتاب هو حالة من الانحراف الصحي، تلم بالإنسان كلما وقع خلل في توازن جسمه[i]، هذه الحالة كانت بعيدة نوعا ما عن الاعتقاد الشعبي الراسخ لدى المغاربة الذين كانوا يرون المرض شيئا خارجيا لا علاقة له بجسم الإنسان، وإنما يأتي من مصار مختلفة تحيل على ما يحتفظ به المتخيل الشعبي من تمثلات راكمتها ممارسات وتجارب من يسمون أنفسهم بالأطباء. وظل الاعتقاد بأن المرض يأتي أحيانا من كائنات غير مرئية كالعفاريت والجن، وأحيانا أخرى عن طريق الإصابة بالعين أو السحر أو التوكال، كما يعتبر قضاء ينزل من السماء. وقد أكد هذا الواقع ما حمله إلينا الموروث الشفهي في الأمثال والأشعار؛ كأن يقال إن العين حق، والسحر حق، وإن العين تخلي المنازل وتعمر القبور...[ii]، وحتى الكتابات المغربية في هذا الشأن اعتبرت المرض قضاء وقدرا دون أن تتمكن من معرفة أسبابه. وفي الوقت الذي كان فيه الطب الأوربي- والفرنسي بالخصوص- يسترشد بآليات جديدة ووسائل عصرية يتحدد بها تصنيف الأمراض، وتكشف عن الجراثيم المسببة لها، ظل المغاربة يعتمدون على الملاحظة العينية في تصنيف الأمراض؛ إما بتحديد مكانها كمرض الرأس ومرض الجلد ومرض الرئة، أو بميزتها الحرارية كمرض البرودة ومرض السخانة، أو بحسب قوتها كالزهري المسمى المرض الكبير والسل الملقب بالمرض القبيح، أو انطلاقا من لونها كمرض بوحمرون ومرض بوصفير...[iii]، وقد اعتبرت هذه التوصيفات والتشخيصات سطحية لا تراعي سبب المرض ولا نوعه ولا الميكروبات المسببة له. وإذا كانت نظرة المغاربة إلى المرض تتميز بنوع من السطحية، فإن البحث في سبل العلاج وطرق التداوي ووسائل الاستشفاء التي اتخذت أشكالا متعددة لم تكن تخرج عن نفس السياق.
2- ثقافة التطبيب وأساليب مواجهة الأمراض. إذا كان المرض في شكله العلمي المرتبط بالانحراف الصحي، أو فيشكله االمتخيل في الذاكرة المغربية، فإن العلاج منه كان ضرورة ملحة على المرضى وذويهم، تستدعي منهم البحث عن كل الوسائل الكفيلة بمحاربته والقضاء عليه، وقد احتفظت لنا الذاكرة المغربية والموروث التقليدي بأنواع شتى من الممارسات العلاجية التي ارتبطت في معظمها بمخلفات كتب الطب التقليدي، وما تناقلته بعض التجارب العلاجية الناجحة، وما حوته أشعار بعض الفقهاء والعارفين من دعوات استشفائية في أماكن معلومة. ولقد أشار مؤلف الكتاب الذي درس الموضوع في فترة الحماية الفرنسية بالمغرب إلى انكباب الأطباء والمبعوثين الفرنسيين على دراسة الوضعية الصحية لدى المغاربة، والذين نبهوا في كتاباتهم وتقاريرهم حول بؤر الاستشفاء إلى الحالة المزرية التي وجدوا المغاربة عليها في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، وإلى رسوخ ثقافة بدائية في البحث عن سبل التداوي، وإلى الانتشار الكبير لبؤر الاستشفاء التقليدي. ومن أهم طرق العلاج التي وجد الفرنسيون المغاربة يتداولونها خلال الفترة المذكورة، نورد بعض ما رصده المؤلف في هذا الباب: - الاستشفاء بالحامات: وهي العيون الحارة المساعدة على علاج بعض الأمراض، واشتهر المغرب بعدد من الحمات أهمها حمة مولاي يعقوب قرب مدينة فاس، والتي شكلت مركز تجمع المرضى من كل بقاع المغرب؛ من الجذمى والبرصى إلى المصابين بأمراض الزهري والنوار والبتور والمفاصل وغيرها كثير. ورغم الدور المهم لماء الحمة في معالجة بعض الأمراض الجلدية، فإن طريقة الاستحمام والاختلاط العشوائي للمرضى جعلها بيئة حقيقية وخطيرة لنقل الأمراض وانتشار العدوى[iv]. - الاستشفاء بالأولياء: ظل المغاربة لفترات طويلة من تاريخهم يعتقدون في زيارة أضرحة الأولياء حضور البركة وقضاء الحاجة والشفاء من الأسقام، ومما زاد من تشبتهم بهذه العادة، تأكد معتقدهم بعد تجربة ناجحة من شفاء بعض الزوار من أمراضهم، بل لقد تجاوز هذا الأمر أذهان العامة إلى بعض الفقهاء والعارفين، فهذا الفقيه عبد السلام جسوس يقول في ضريح سيدي علي بوغالب بسلا : إذا ما الخوارج قد خرجت بجسمي وضاقت بها حيلي أتيت ضريح أبي غالـــــب وهل للخوارج إلا علــــــــــــــي[v] - التداوي بالأعشاب: وهي من أكثر الوسائل المعتمدة في علاج الأمراض، سواء فردية أو مجتمعة، وسواء استعملت أوراقها أو أزهارها أو جذورها أو نقيعها أو مسحوقها أو دخانها، وكثيرا ما كانت تنجح هذه العمليات في علاج عدد من الأمراض من قبيل الحمى والزهري والجذري[vi]. وبالرغم من المعرفة الكبيرة للمغاربة لمجموعة من الأعشاب فإن مقاديرها وطرق استعمالها لم تكن تعتمد على خبرة علمية، وإنما على تجارب واجتهادات الواصفين التي قد تصيب وتخطئ أحايينا. - التداوي بالكي والجراحة: استعمل المغاربة الكي بآلات حديدية محماة بالنار لعلاج اليرقان وأمراض المعدة وآلام الفدع والوكز، كما مارسوا الحجامة لاستفراغ الدم الملوث، والفصد لعلاج الأورام والسموم، وتفننوا في إزالة الغشاوة (الجلالة) عن عين المريض، وفي جبر الكسور والتصدعات التي تلحق بالعظام[vii]. ولم تتوقف وسائل البحث عن الاستشفاء أو العلاج في الوسائل المادية الخاصة بالوصفات المأكولة أو المشروبة أو المدهونة، بل ظهرت بموازاتها أنواع أخرى من الوصفات (الروحانية) المرتبطة بالتمائم والأحرزة و(الحجابات)، وما كان يحرر فيها من أيات قرآنية أو كلمات مبهمة أو أرقام وجداول فلكية يقوم بها دجالون ومشعوذون همهم اصطياد فرائسهم من بين السذج والبسطاء. ومن الغريب أن المغاربة كانوا يتناقلون بعض ما يعتبرونه وسائل علاجية تتطلب في نظرهم نقل المرض إلى إنسان آخر، وقد أورد المؤلف أمثلة بعض هذه الممارسات منها؛ أن يوصى المصاب بالسيلان بالبحث عن الشفاء من علته في اتصال جنسي مع امرأة سوداء. أما المصاب بعسر البول فيضع أهله بعض الأعشاب على آجرة ويتبول عليها المريض، ثم توضع عند مفترق الطرق، وينتقل الداء إلى من يضع قدمه عليه[viii]. ما يمكن أن نستخلصه، أن التاريخ المغربي احتفظ لنا بأسماء بعض الأطباء المعروفين الذين اشتهروا في بلاطات السلاطين من أمثال الوزير الغساني طبيب السلطان أحمد المنصور السعدي، وعبد الوهاب بن أحمد أدراق طبيب السلطان المولى إسماعيل العلوي، وكل من عبد السلام العلمي وأحمد بن حمدون زمن السلطان الحسن الأول. وقد خلف هؤلاء مؤلفات شهيرة، لكنها لم تكن تخرج –حسب المؤلف- عن معارف أولية في الطب والجراحة والصيدلة والأعشاب وجسم الإنسان والرقى والطلسمات. وحتى هذه المعرفة كانت موجهة لأكابر القوم ممن تيسر لهم الاعتناء بأنفسهم وأهليهم[ix]، أما عامة الناس فكانوا يلتجئون إلى التطبيب والتداوي بالأعشاب، وإلى استعمال التمائم والطلاسم والتعاويذ وغيرها[x]، وإلى بعض التجارب الناجحة لبعض من كان لهم الحظ في الاستشفاء ببعض الوصفات المرتجلة؛ العامية منها والسحرية... لقد أعطى المغاربة أهمية كبيرة لحفظ الصحة؛ ظهر ذلك من خلال المأشور الشفهي المتواثر على ألسنة الخاصة والعامة، من ذلك قولهم "الصحة هي الفضل هي راس المال" و"الصحة كنز" و"الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"...وأيضا من خلال اشتداد الزيارات وعيادة المرضى ومؤانستهم، لكن هذا الاهتمام الكبير لم يكن يظهر بنفس القوة والحدة والجدة اتجاه الحفاظ على الصحة والبحث عن وسائل العلاج الحقيقية القمينة بمعالجة ما يلم بهم من أمراض. [i] - رويان بوجمعة، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912- 1945، مطابع الرباط نت، الرباط 2013، ص 73. [ii] - ن، م، صص 73-75. [iii] - ن، م، صص 77-78. [iv] - ن، م، صص86-90. [v] - ن، م، ص 93. [vi] - ن، م، ص96. [vii] - ن، م، صص97-99. [viii] - ن، م، ص76. [ix] - ن، م، ص81. [x] - ن، م، ص82
الطيب بياض، كتابة التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين
2
هكذا تناسى معظم المؤرخين المغاربة الواقع الاقتصادي للبلاد إبان الفترة الاستعمارية وبعدها، مع أن الاقتصاد تحكم بشكل كبير فيما عرفته البلاد من أحداث وتحولات. وترك تناول هذا الواقع لباحثين أجانب ولباحثين مغاربة من خارج حقل التاريخ. فكانت الحصيلة حرمان التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين من المعالجة النظرية والتطبيقية الكفيلة بتسليط الضوء على أماكن العتمة من تاريخنا المعاصر والراهن، وتفسير تطور البلاد بعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية في 30 مارس 1912.
3فما هي أهم الإشكاليات التي تطرحها كتابة التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين؟ وأي ملاحظات تتثيرها الهسطوريوغرافيا المرتبطة به سواء خلال الحقبة الاستعمارية أو بعدها؟ الإشكاليات التي تطرحها كتابة التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين 4يجد الباحث في التاريخ الاقتصادي للمغرب المعاصر والراهن نفسه أمام جملة إشكاليات مركبة ومعقدة تجعل مهمته صعبة، لاسيما وأنه يشتغل في تخصص يقع في نقطة تقاطع بين حقلين معرفيين لكل منهما مناهجه وأسئلته وضوابطه. وأعني بهما حقل التاريخ الموسوم حينا بالرصد والسرد والحدث وأحيانا أخرى بالتركيب والمقاربة الإشكالية والبنية، وحقل الاقتصاد الذي يُعنى بالإنتاج وتوزيعه بين مقاربة الاقتصاد السياسي والمقاربة « الاقتصادوية ». وسأحصر أهم هذه الإشكاليات في ثلاث هي التحقيب وتوصيف البنية الاقتصادية وكيفية التعامل مع المصادر. إشكالية التحقيب • 2 بياض (ط.)، المخزن والضريبة والاستعمار، ضريبة الترتيب 1880-1915، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011، (...) • 3 كَيلين (ب.)، الاقتراضات المغربية، 1902-1904، تعريب المصطفى برنوسي، الجمعية المغربية للتأليف والترجم (...)
5تشكل سنة 1912 بالنسبة للباحث في التاريخ السياسي للمغرب المعاصر حدثا مفصليا باعتبارها تؤرخ لدخول فرنسا دولة حامية بسطت سيطرتها على المغرب، لكن بالنسبة للمهتم بالتاريخ الاقتصادي قد لا يبدو له هذا التاريخ أساسا للتحقيب؛ فمعاهدة الحماية لم تلغ المعاهدات التجارية السابقة للمغرب مع الدول الأجنبية، ذلك أن المعاهدة الشهيرة مع بريطانيا سنة 1856 والتي فتحت باب الاختراق الاقتصادي الأجنبي للمغرب على مصراعيه لم تلغ إلا بتسوية فرنسية بريطانية سنة 1937، والمعاهدة الأمريكية لسنة 1836 الضامنة لإعفاءات جبائية للأمريكيين المقيمين في المغرب، اعتبرت في نظر القنصلية الأمريكية في المغرب سارية المفعول حتى بعد سنة 1912، لذلك أثارت إشكالا قانونيا وصل إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي. وعليه، قد يكون إجراء الترتيب سنة 1901 وما صاحبه من إفلاس مالي دفع البلاد إلى الاقتراض من الخارج، ربما أجدر من عقد الحماية في محال التحقيب2. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن قرض 1904 الذي رهن 60 % من عائدات الجمارك المغربية لأداء الدين، والذي أقر في أحد بنوده بأحقية « بنك باريس والأراضي المنخفضة » Banque de Paris et des Pays-Bas في تأسيس البنك المخزني3.
كما أن مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 بما ضمنه من سياسة الباب المفتوح في المجال الاقتصادي قد يكون محطة مهمة للتحقيب، لأنه دشن لتوزيع الكعكة الاقتصادية المغربية بين الدول المتنافسة. • 4 Julien (Ch.-A.), Le Maroc Face aux impérialismes 1415-1956, Éditions. J.A, Paris, 1978, p. 83. 6كما أن قرض 1910 قد يبدو أيضا محطة مفصلية، وهو الذي اعتبره « شارل أندري جوليان » بمثابة الحبل الذي خنق السلطان، وقضى على آخر مقومات السيادة المغربية خاصة وأنه رهن ما تبقى من مداخيل البلاد لأداء مستحقات القرض4. 7فهل يمكن بعد هذا أن نتحدث عن محطة 30 مارس 1912 كحدث مفصلي في التاريخ الاقتصادي للمغرب المعاصر؟ ألم تكن هذه المحطة مجرد تتويج وإضفاء للشرعية على واقع جرى تهييئه لإنشاء مقاولة اسمها الحماية؟ 8وماذا عن سنة 1956؟ هل شكلت كذلك حدثا مفصليا في التحقيب؟ هل كان استقلال البلاد نهاية لمقاولة الحماية وإفلاسا لها؟ هل ألغت أول حكومة للمغرب المستقل المخطط الاقتصادي 1954-1957؟ هل مع سنة 1956 استرجعت الدولة أراضي المعمرين وشرع المستثمرون الأجانب في الانسحاب؟
9يبدو أن الاختيارات الاقتصادية للمغرب المستقل عرفت استمرارية ثم ترددا بين توجهين، الأول ينادي بالحفاظ على الاستثمارات ولو بالتضحية بالتحرر الاقتصادي، والثاني رفع شعار استكمال الاستقلال بالتحرر الاقتصادي؟ ومن ثم، ألا تبدو سنة 1960 أكثر أهمية بالنظر إلى جرأة المخطط الخماسي 1960-1964 حتى وإن تم إفراغه والتراجع عنه؟
2. إشكالية تحديد البنية الاقتصادية: • 5 Swearingen (W. D.), Moroccan mirages, Agrarian dreams and deceptions, 1912-1986, Princeton Universi (...) 10تطرح أمام الباحث في التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين جملة أسئلة مرتبطة بسيرورة بنية اقتصادية. فهل شكلت مرحلة الحماية انتقالا من نمط تقليدي في الإنتاج قد يختلف الباحثون في تسميته بين فيودالي وأسيوي وقائدي وقبلي ومخزني ومعاشي، إلى نمط آخر من الإنتاج قد يوصف بأنه عصري؟ هل قضت التقنية والأساليب العصرية على التدبير التقليدي للاقتصاد المغربي؟ بماذا يفسر تعايش القطاعين العصري و« الأهلي » indigène كما كان يطلق عليه في فترة الحماية في الاقتصاد المغربي خلال المرحلة الاستعمارية؟ وماذا يعني استمرار القطاعين في المغرب المستقل؟ أي مقاربة يمكن اعتمادها لفهم إنتاج الثروة والتحكم فيها وتوزيعها خلال مرحلتي الاستعمار والاستقلال؟ كيف تأثرت الاختيارات الاقتصادية للمغرب خلال القرن العشرين بالمتغيرات الاقتصادية العالمية؟ كيف جعلت الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 مثلا فرنسا تعيد النظر في سياستها الاقتصادية بالمغرب من إنتاج مرتبط بالمِترُبول إلى إنتاج يراعي الواقع المحلي من جهة، وينفتح على التجارب العالمية من جهة ثانية، خاصة النموذج الأمريكي في الفلاحة؟5 وقبل هذا الحدث وبعده، كيف تحول الاقتصاد المغربي إلى اقتصاد حرب خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ وكيف أسهم المناخ الدولي في مرحلة ما بعد أزمة البترول سنة 1973 في دفع المغرب إلى جعل سياسة التقويم الهيكلي خيارا اقتصاديا رغم الوضع الاجتماعي المحتقن بالبلد إرضاء للمؤسسات الدولية ولتوجهات فرضت على اقتصادات شبيهة خلال مرحلة « ريغان »/« تاتشر »؟
11وهكذا يطرح الباحث في التاريخ الاقتصادي أسئلة تكتسي أحيانا راهنية حقيقية، من قبيل كيف تحول المغرب من الاكتفاء الذاتي على مستوى تغذية ساكنته إلى بلد مستورد للحبوب؟ 3. إشكالية التعامل مع المصادر والدراسات: • 6 محمد بن الحسن الحجوي، أهم الأخبار عن حرب الثأر والاستعمار ومذكرات بما له اعتبار، مخطوط بالخزانة الع (...) • 7 انظر على سبيل المثال لا الحصر مختلف المقالات الصادرة في هذا المجال بأسماء مستعارة بمجلة Maghreb, rev (...) 12يمكن للباحث في التاريخ الاقتصادي المغربي خلال فترة الحماية أن يعثر في المصادر المغربية التقليدية على معلومات متفرقة تهم موضوعه، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمؤلفات محمد بن الحسن الحجوي سواء في كتابه « أهم الأخبار عن حرب الثأر والاستعمار ومذكرات بما له اعتبار »، أو في تقريره التاريخي عن حالة المغرب بعد الحماية حيث توقف بالخصوص عند موضوع الاستيطان الزراعي والترتيب والصناعات المنجمية، وتضرر المغاربة من السياسة التي اتبعتها فرنسا في هذه المجالات6. والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة لكتابات الوطنيين المغاربة الذين كتبوا عن السياسة الاقتصادية لفرنسا بالمغرب خلال فترة الحماية لكشف مخاطرها7. • 8 من قبيل كتاب "جون ديزم" المعنون بـ"المغرب الذي صنعناه". 13غير أن المصادر الرئيسية للتاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين تتكون أساسا من الدراسات والتقارير المتنوعة الراجعة إلى فترة الحماية، وهي وإن كانت غالبيتها الساحقة من تأليف أجانب أو من غير ذوي الاختصاص، أي من خارج حقل التاريخ، فإنها تحتفظ بقيمتها التوثيقية. ويمكن التمييز في هذه الدراسات بين أعمال ذات نفحة إيديولوجية استعمارية واضحة كانت ترد على الخطاب الإيديولوجي الوطني بصفته جاحدا بمنجزات الاستعمار8، وبين أعمال موظفي إدارة الحماية ومستشاريها أو حتى مراقبيها وضباطها في الشؤون الأهلية أو ضباطها العسكريين في شكل دراسات وتقارير. وبالتالي فإنها تفرض على الباحث التعامل معها بالحذر المنهجي المطلوب. 14وإلى جانب هذه الدراسات الأجنبية، نجد صنفا ثالثا من المصادر، يتكون من إنتاج باحثين مغاربة في حقل الاقتصاد أو في الجغرافيا. ومهمة المؤرخ في التعامل مع هذه الأعمال لا تقل صعوبة، نظرا لما سبقت الإشارة إليه من اختلاف آليات الاشتغال المتعلقة بكل حقل معرفي. فقد يستحضر المؤرخ جدولا إحصائيا أو رسما بيانيا أو خريطة توضيحية لتقريب الفهم أو الاستدلال على تطور ما لكن دون الارتهان بمقاربتي الرقم والمجال، بل لتوظيفها في إيجاد عناصر إجابة عن أسئلته أو قضاياه التاريخية وتحليلها ومعالجتها من زاوية المؤرخ المنفتح على الحقول المعرفية الأخرى دون الانصهار فيها، أي بالحفاظ على هويته كمؤرخ. فأي إنتاج يمكن رصده بالنسبة للهسطوريوغرافيا المرتبطة بالتاريخ الاقتصادي للمغرب خلال الحقبة الاستعمارية؟ كتابة التاريخ الاقتصادي المغربي خلال فترة الحماية • 9 سنعرض لهذا الضعف مقارنة مع إنتاج الباحثين الأجانب في العنصر الثالث من هذا المقال عند حديثنا عن الإن (...) • 10 Hoffherr (R.), L’économie marocaine, Sirey, Paris, 1932. أو أعمال أخرى سارت في الاتجاه نفسه، منها ما (...) • 11 Graux (Lt. Col.), Le Maroc, sa production agricole, Sirey, Paris, 1912. • 12 Bondis (Cpt A.), La colonisation au Maroc, Rabat, 1932. • 13 Chabert (M.), L’hydraulique au Maroc, Imprimeries réunies, Casablanca, 1946. • 14 Dresch (J.), L’agriculture en Afrique du nord, Centre de documentation universitaire, Paris, 1956. • 15 Lebel (R.), L’impôt agricole au Maroc «Le Tertib», Emile Larose, Paris, 1925. • 16 Cattenoz (M. G.), La fiscalité marocaine, P.U.F, 1927. • 17 Jouannet (J.), L’évolution de la fiscalité marocaine depuis l’instauration du protectorat, Librairi (...) 15
ظل إنتاج المغاربة ضعيفا في مواضيع تهم التاريخ الاقتصادي للمغرب خلال فترة الحماية9، لذلك سنركز على أعمال الأجانب التي أرخت لجوانب مختلفة من دينامية الحماية. ويمكن أن نميز ضمن هذه الكتابات بين أعمال همت الاقتصاد المغربي في شموليته، كما هو الشأن مثلا مع « روني هوفر » في كتابه الصادر سنة 1932 عن الاقتصاد المغربي10، وبين أعمال أخرى اشتغلت على قطاعات معينة في الاقتصاد، كما هو الحال مثلا في كتاب الضابط « غرو » عن « الإنتاج الفلاحي في المغرب » الصادر سنة 1912 11، أو في عمل « بونديس » المعنون بـ« التعمير في المغرب » الصادر سنة 1932 12، أو في عملي « شابير » عن النظام المائي في المغرب الصادر سنة 1946 13، وعمل « جان دريش » عن « الفلاحة في إفريقيا الشمالية » الصادر سنة 1956 14. أو في المجال الجبائي مع أعمال كل من « رولان لوبيل » « الضريبة الفلاحية في المغرب: الترتيب »15، و« الجباية المغربية » لـ« كاتنوز »16، و« تطور الجباية المغربية منذ قيام الحماية » لـ« جاك جواني »17. 16وسأكتفي بعرض نموذجين معبرين من هذه الأعمال، الأول من العينة الخاصة بدراسة الاقتصاد المغربي في شموليته، والثاني من صنف الدراسات التي ركزت على قطاع معين من قطاعات الاقتصاد المغربي خلال فترة الحماية. 17بالنسبة للصنف الأول، نتناول كتاب الاقتصاد المغربي الصادر سنة 1932 الذي كان مؤلفه يشغل منصب مدير المراكز القانونية بمعهد الدراسات العليا المغربية. يقع هذا العمل في 340 صفحة مع خريطتين توضيحيتين للاقتصاد المغربي في آخر صفحتين من الكتاب. 18حاول « روني هوفر » أن يكون عمله شاملا، ملما بمختلف الجوانب والقضايا المتعلقة بواقع القطاعات الاقتصادية بالمغرب إلى حدود بداية الثلاثينات من القرن العشرين. لذلك لم يكن من باب الصدفة أن يستعرض المعطى الديمغرافي أولا، بمعالجة ترمي إلى تشريح الواقع السوسيو-اقتصادي للساكنة التي اهتم بدراسة اقتصادها، سواء تعلق الأمر بالسكان المحليين أو المهاجرين الأوربيين. وبما أن اقتصاد مغرب ما قبل الاستعمار ظل اقتصادا تقليديا معاشيا مفتقرا للتجهيزات لم يتطلع إلى تحقيق التراكم، كان طبيعيا أن تعمل الدولة الحامية على تجهيز البلاد بالبنية التحتية الضرورية لاستغلال خيرات البلاد من موانئ وطرق وسكك حديدية وتشييد للمدن.
وقد عالج الكاتب هذا الجانب كمحطة أساسية في عمله قبل استعراض واقع مختلف القطاعات الاقتصادية، وتحديدا موضوع الاستيطان الزراعي وتعقيدات البنية العقارية ومشكلة الزراعة الأحادية في المغرب (الحبوب)، ومحدودية الإنتاج الزراعي، ثم القطاع الصناعي بنوعيه العصري والتقليدي، وكذا الثروات المنجمية للبلاد ومشروع تزويدها بالكهرباء. كما عكف الباحث على معالجة موضوع القطاع التجاري المغربي ومتغيراته خلال هذه الفترة من عمر الحماية بشقيه الداخلي والخارجي، وكذا القطاع المالي بالمغرب من ميزانية وقروض وضرائب وغيرها من مداخيل الدولة وعائداتها. 19ولما كان هم فرنسا أن يكون اقتصادها بمستعمراتها في شمال إفريقيا تكامليا لا تنافسيا، وأن تتم الاستفادة في اختياراتها الاقتصادية بالمغرب من أخطائها السابقة بكل من تونس والجزائر، اختار « روني هوفر » أن يختم كتابه بوضع الاقتصاد المغربي ضمن السياسة الفرنسية لشمال إفريقيا بين التكامل والمنافسة. 20وعلى الرغم من أن عمل « روني هوفر » عن الاقتصاد المغربي ليس عملا أكاديميا، إذ جاء في شكل كتاب بدون إحالات ولا لائحة بيبليوغرافية، غير أن قيمته تبقى مهمة بالنظر إلى أنه من تأليف أحد المطلعين على خبايا سياسة الحماية الفرنسية بالمغرب، والملمين بمعطياتها. لذلك كان عارفا بموضوعه، متأكدا من مادته التي وظفها في تأليف كتابه. 21الكتاب الثاني للدكتور « جاك جواني » عن تطور النظام الضريبي المغربي منذ تأسيس الحماية، وهو عمل ضخم يضم 765 صفحة جاء في ثلاثة مجلدات احتوت على أربعة كتب متضمنة لثمانية أبواب و24 فصلا و66 مبحثا. 22تطرق « جاك جواني » في الكتاب الأول لنظام الضرائب المباشرة بالمغرب من خلال بابين، عالج في الأول منهما الوعاء الضريبي ومقياس الضرائب المباشرة قبل سنة 1939، وتناول في الباب الثاني موضوع الوعاء الضريبي الجديد ومعدلات الضرائب المباشرة الجديدة. 23وتعرض في الكتاب الثاني لنظام الضرائب غير المباشرة بالمغرب من سنة 1912 إلى سنة 1953، مفصلا القول في الموضوع عبر بابين خصص الأول للضرائب على تداول الثروات والثاني لواجبات التسجيل والتنبر والضريبة على المواد الاستهلاكية. 24وجاء الكتاب الثالث مهتما بموضوع تطبيق الضريبة بالمغرب مقسما إياه إلى بابين، تحدث أولهما عن الشرعية الضريبية والإطار الضريبي، وثانيهما عن ممارسة السلطة الضريبية، ثم انتقل « جاك جواني » في الكتاب الرابع للحديث عن مصير الضريبة وتطورها في المغرب الحديث، معالجا هذا الموضوع عبر بابين، تعرض أولهما للعدالة والإنتاجية في النظام الضريبي المغربي، وتساءل في الباب الثاني من هذا الكتاب هل النظام الضريبي المغربي موجه أم ليبرالي؟ متوقفا في معرض إجابته عن هذا السؤال عند تطور النظام السياسي المغربي وتداعياته على المجال الضريبي خاصة مع تأسيس مجلس حكومي مؤلف من مغاربة وفرنسيين للنظر في القضايا الضريبية. 25على الرغم من أن « جاك جواني » اتكأ على فهم وتأويل « ميشو بيلير » Michaux-Bellaire، أحد رواد السوسيولوجيا الكولونيالية، في التأصيل لضريبة الترتيب، فإن عمله حول تطور النظام الضريبي المغربي خلال فترة الحماية يبقى مرجعا أساسيا ومهما لفهم تعقيدات هذا النظام، خاصة وأنه أثار قضايا ذات أبعاد سياسية واجتماعية وحتى دبلوماسية مرتبطة بموضوع النظام الجبائي المغربي المعاصر، لذلك يعد هذا العمل مرجعا أساسيا لكل من رام دراسة الثابت والمتغير في منظومة التشريع الجبائي المغربي زمن الانتقال من المرجعية الشرعية إلى المرجعية الوضعية. الإنتاج العلمي في حقل التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن 20 26يمكن تصنيف الإنتاج العلمي في حقل التاريخ الاقتصادي لمغرب القرن العشرين إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: غزارة في الإنتاج الأجنبي وإسهام مغربي بمقاربات اقتصادية. • 18 Charles F. Stewart, The Economy of Morocco, 1912-1962, The President and Fellows of Harvard college (...) 27أهم الإنتاجات الأجنبية التي همت الموضوع خلال هذه الفترة هي إما كتابات جادة، سواء لفرنسيين من أمثال « روني هوفر » في كتابه السالف الذكر، أو أنكلوسكسونيين أمثال « شارل ستيوارت » في كتابه الصادر سنة 1964 تحت عنوان « اقتصاد المغرب »18، أو عبارة عن رصد حصيلة للتباهي بإنجازات الحماية في مجال الاقتصاد والبنية التحتية للرد على أطروحات الحركة الوطنية المركزة فقط على مساوئ الاستعمار كما ذهب إلى ذلك « جون ديزم » في كتابه السابق الذكر. • 19 Annuaire statistique du Maroc. • 20 Bulletin économique et social du Maroc. • 21 Annuaire commercial du Maroc. 28أما المادة المصدرية لهذا الموضوع، فتوجد بغزارة في النشرات الاقتصادية التي كانت تصدرها مختلف مصالح الإقامة العامة وأهمها المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع B.E.S.M 19، والدليلين السنويين للإحصاء والتجارة A.S.M ،20 A.C.M 21. • 22 Salahdine (M.), Maroc : Makhzen Tribus et colons. Essai d’histoire économique et sociale du Maroc, (...) • 23 بلال (عبدÊالعزيز)، الأزمة التركيبية للاقتصاد المغربي ومقتضيات تطور اقتصادي سريع، مطبعة امبريجيما، ا (...) • 24 El Aoufi (N.), La Marocanisation, Toubkal, Casablanca, 1990. • 25 الحبيب المالكي، الاقتصاد المغربي والأزمة، آفاق عالمية وجهوية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 19 (...) • 26 ولعلو (ف.)، نحن والأزمة الاقتصادية العالمية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2009. Oualalou (F (...) • 27 Saâdi (M. S)., Les groupes financiers au Maroc, Ed. Okad, Rabat, 1989. • 28 الكَراوي (إ.)، الاقتصاد المغربي: التحولات والرهانات، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1996. النويض (...) • 29 Sadik (A.), L’économie du Maroc, accélération de l’histoire, Ed. La porte, Rabat, 1995. 29وإلى جانب هذا الإنتاج الأجنبي، توجد أعمال مغربية رصينة ودراسات عميقة للاقتصاد المغربي خلال هذه الفترة، لكن بمقاربات علماء الاقتصاد وليس المؤرخين، نذكر منها على سبيل المثال أعمال كل من محمد صلاح الدين22، عزيز بلال23، نور الدين العوفي24، الحبيب المالكي25، فتح الله ولعلو26، سعيد السعدي27، إدريس الكَراوي28، وأحمد الصديق29. الصنف الثاني: الأطاريح الجامعية المهتمة بالتاريخ الاقتصادي 30الأطاريح الجامعية في حقل التاريخ التي اشتغلت على مواضيع تهم التاريخ الاقتصادي للمغرب خلال فترة القرن العشرين هي من الندرة بمكان، نذكر منها بكلية الآداب بالرباط أطروحات كل من: • 30 برنوسي (م.)، جوانب من الأزمة المالية بالمغرب على عهد الحماية، الميزانيات 1912-1925. دكتوراة الدولة، (...) - المصطفى برنوسي، جوانب من الأزمة المالية بالمغرب على عهد الحماية، الميزانيات 1912-1925 30. • 31 بن الجيلالي (ح.)، انعكاسات أزمة 1929 على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، المنطقة الفرنسية، (...) - حسن بن الجيلالي، انعكاسات أزمة 1929 على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب31. • 32 الرباط، 2003-2004. - مصطفى بدر، بناء مرسى الدار البيضاء32. 31وبكلية الآداب فاس أطروحة: • 33 محمد تالوزت، التجارة والتجار بمدينة فاس خلال فترة الحماية، أطروحة دكتوراه، تحت أشراف محمد البكراوي، (...) - محمد تالوزت، التجارة والتجار بمدينة فاس خلال فترة الحماية33. • 34 Echaoui (M.), Evolution de l’économie marocaine pendant la seconde guerre mondiale 1939-1945, contr (...) 32وبجامعة نيس بفرنسا أطروحة محمد الشاوي حول تطور الاقتصاد المغربي خلال الحرب العالمية الثانية34. 33والملاحظ أن كل هذه الأعمال اهتمت بفترة الحماية ولا وجود لأطروحة، في حدود علمنا، في حقل التاريخ عن التاريخ الاقتصادي للمغرب المستقل، أي بعد سنة 1956. الصنف الثالث: أعمال ندوات، ملفات بمجلات، حيز بأطروحات • 35 أعمال ندوة التجارة في علاقتها بالمجتمع والدولة عبر تاريخ المغرب، منشورات جامعة الحسن الثاني، كلية ا (...) • 36 بوعسرية (ب.)، "الحرف والحرفيون بمكناس من الازدهار إلى الانحطاط، 1900-1936"، مجلة أمل: التاريخ، الثق (...) • 37 مجلة أمل: التاريخ، الثقافة، المجتمع، العدد السادس حول التجارة، سنة 1995. 34باستثناء الأعمال المذكورة، ظل إسهام المؤرخين المغاربة في كتابة التاريخ الاقتصادي للمغرب خلال القرن العشرين محتشما، وإن وجد فقد اقتصر على فترة الحماية؛ فأعمال ندوة « التجارة في علاقتها بالمجتمع والدولة عبر تاريخ المغرب » التي احتضنتها كلية الآداب عين الشق بالدار البيضاء، لا تحتوي إلا على مقال واحد للعربي الواحي حول « دور التجارة في الحركة الوطنية في سلا خلال عهد الحماية »، من أصل 32 مقالا صادرا ضمن أعمال هذه الندوة35. أما الملفان اللذان خصصتهما مجلة « أمل » لمواضيع ذات طابع اقتصادي، بالعددين السادس والسابع، فقد ضم الملف الخاص بالحرف مقالا واحدا يهم الموضوع36، فيما خلا ملف التجارة من أي مساهمة تهم القرن العشرين37. 35لقد توزع التاريخ الاقتصادي للمغرب خلال القرن العشرين، أو بالأحرى خلال فترة الحماية على أعمال ندوات أو ملفات خاصة في مجلات، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، أو حظي بحيز متفاوت في بعض الأطروحات الجامعية، أذكر منها على سبيل المثال: • 38 رويان (ب.)، أوجه الاستغلال الاستعماري للمغرب خلال الهدنة الفرنسية الألمانية، يونيو 1940-نونبر 1942، (...) - بوجمعة رويان، « أوجه الاستغلال الاستعماري للمغرب خلال الهدنة الفرنسية الألمانية »38. • 39 لكريط (ع.)، المغرب والجنرال نوكيس على عهد الحماية 1936-1943، أطروحة دكتوراه، تحت أشراف الشافعي العل (...) - عبد الرزاق لكريط، « المغرب والجنرال نوكيس على عهد الحماية »39. • 40 Bekraoui (M.), Les Marocains dans la Grande Guerre, 1914-1919, Publications de la Commission maroca (...) - محمد بكراوي، « المساهمة المغربية في الحرب العالمية الأولى »40. • 41 ياسين (إ.)، آثار التغلغل الفرنسي جنوب الأطلس الكبير، نموذج قبائل أيت ووازكيت 1912-1939، أطروحة دكتو (...) - إبراهيم ياسين، « أثار التغلغل الفرنسي جنوب الأطلس الكبير »41N خلاصة 36غالبا ما يرتبط التاريخ الاقتصادي بالاجتماعي، والقيام بفهرسة ما لمواضيع البحث التي أنجزت حول تاريخ المغرب المعاصر قد يعكس إنتاجا غزيرا للأطروحات التي اختارت الاشتغال على مواضيع ذات طابع سوسيو-اقتصادي، لكن هذه الصورة تبدو خادعة وغير معبرة عن مكانة التاريخ الاقتصادي الحقيقية ضمن هذه الأبحاث، ذلك أن هذا الارتباط غالبا ما يعني مرورا عابرا على المعطيات الاقتصادية لفائدة الإسهاب في تحليل أثرها وتداعياتها على المجتمع. لذلك، ربما يكون من الأفيد إنجاز أعمال تهتم بالتاريخ الاقتصادي تعنى بعملية تشريح للواقع الاقتصادي، وتقدم المعطيات التي تتيح فهما أعمق لمن أراد استثمارها لتحليل تطور البلاد على مختلف الأصعدة. ولعل الأمر يبقى، في تقديرنا، ورشا للانجاز، يتطلب في مرحلة أولى إعداد بنك للمعلومات عبر عملية جمع للمادة وحصرها، ثم في مرحلة ثانية الاشتغال على هذه المادة تصنيفا ودراسة وتحليلا، للانتقال إلى مرحلة الخلاصات الكبرى بتأطير نظري عميق يرقى بها إلى مستوى التنظير بمقاربات مختلفة ومتكاملة معتمدة على الحصيلة الرصينة. وفي غياب هياكل البحث المتخصصة في الموضوع داخل الجامعة المغربية، وانعدام أي حوار مثمر ومنتج للمؤرخين المغاربة مع باحثين في حقول معرفية مختلفة خاصة الاقتصاد والسوسيولوجيا، تبقى مادة هذا الموضوع مشتتة بين أعمال متفرقة تحتاج إلى التجميع والتكثيف والدراسة، كما أن المجال ما يزال خصبا وبكرا لإنجاز أعمال جامعية في الموضوع سواء بالنسبة لفترة الحماية أو الاستقلال. تحقيب تاريخ المغرب القديم بين التقسيم الإجرائي والدلالات الحضارية أكد الأستاذ حسن ليمان، أستاذ علم الآثار ورئيس شعبة ما قبل الإسلام بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، أن عملية التحقيب في التاريخ تعتمد على اختيار أحداث مهمة، ووصف هذه العملية بالصعبة وخاصة عندما نحاول تطبيقها على التاريخ الجهوي والمحلي. وأشار في محاضرة ألقاها يوم الثلاثاء 3 يوليوز 2007 بقاعة المحاضرات بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وذلك في إطار الأنشطة العلمية التي ينظمها مركز الدراسات التاريخية والبيئية، إلى أن التاريخ بصفة عامة يتكون من فترات متعارف عليها عالميا ومعمول بها إلى يومنا هذا، وهي: • التاريخ القديم والذي يبدأ بظهور الحروف الأبجدية وينتهي بسقوط روما؛ • التاريخ الوسيط الذي ينتهي باكتشاف أمريكا؛ • التاريخ الحديث والذي ينتهي بالثورة الفرنسية؛ • التاريخ المعاصر الذي ينتهي بالحرب العالمية الثانية، والتي تشكل في حد ذاتها بداية التاريخ الحديث حسب الأستاذ المحاضر. وأبرز الأستاذ ليمان، في هذا اللقاء الذي حضره كل من السادة: أحمد بوكوس عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وعمار أكراز المدير المساعد للمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث ومصطفى أعشي أستاذ التاريخ القديم وعدد من المهتمين، الأهمية التي يكتسيها هذا التحقيب وخاصة أنه عملية أكاديمية محضة، تهدف تسهيل دراسة التاريخ، موضحا أن هذا التقسيم العالمي المنجز من طرف مؤرخي أوربا والغرب لا يخدم مصالح الحضارات الأخرى على اعتبار تغييب شعوب هذه الحضارات التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في بناء الحضارة الإنسانية. وبخصوص التاريخ القديم لشمال إفريقيا، أوضح الأستاذ المحاضر أن الحقب المعمول بها في هذه الفترة هي الحقبة الفينيقية والبونية والموريطانية والرومانية والرومانية المتأخرة. ووصف هذا التحقيب بالاستعماري لأنه يتحدث عن استعمار القرطاجيين والرومان لشمال إفريقيا، باستثناء الفترة الموريطانية وتساءل الأستاذ ليمان عن سبب تغييب دور الساكنة المحلية، وما هي أسباب إقصائها حتى في التسمية، وخاصة الأمازيغ، في الفترة المورية التي عرفت علاقات اقتصادية قائمة بين السكان المحليين والفينيقيين وخاصة على مستوى التبادل التجاري. كما أبرز أن منطقة شمال إفريقيا حافظت على استقلالها السياسي تجاه قرطاج، مضيفا أن الفترة الفينيقية القديمة عرفت تجمعات سوسيو اقتصادية وثقافية لأمازيغ شمال إفريقيا، وأعطى أمثلة من الفترة الموريطانية في عهد الملكين الأمازيغيين يوبا الثاني وبوكوس ( 80 ق م ) اللذين شكلت شمال إفريقيا في عهدهما قوة سياسية، بحيث ساهم يوبا الثاني في تطوير المؤسسات والمدن وأنشأ عاصمتين: موريطانيا الشرقية وموريطانيا الغربية. وبعد تقديم شروحات حول كل فترة أشار الأستاذ ليمان إلى أن هذه الندوة تشكل مناسبة لتعميق التفكير حول إمكانية رد الاعتبار للتاريخ القديم ودور الساكنة المحلية في صياغة أحداثه، ودعا إلى وضع تحقيب علمي أكاديمي، ووضع كتابة جديدة لتاريخ المغرب تراعي العنصر المحلي، ورد الاعتبار لما قدمه في سجل التاريخ الإنساني، وذلك اعتمادا على تراكمات الوثائق والآثار. وعلى هامش هذه الندوة أكد عمار أكراز في تصريح بالمناسبة أن مثل هذه اللقاءات تشكل مناسبة لإبراز أهمية الجذور التاريخية للحضارة الأمازيغية، وكذا البحث في الثقافة المادية للساكنة الأمازيغية، وذلك بشكل موضوعي علمي، خاصة وأن النصوص التاريخية قليلة إن لم نقل نادرة فيما يخص دور الأمازيغ في منظومة البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من الفترات الفينيقية والرومانية، كما أشار إلى أن إعادة التحقيب يستلزم أبحاثا موضوعية وعلمية دقيقة. يوسف ميرة،إشكالية التحقيب المغربي/الإسلامي تتخذ الدولة المغربية كباقي الدول العربية من التحقيب الأوربي (القديم ـ الوسيط ـ الحديث ـ المعاصر)، منهجا معتمدا في تقسيم تاريخها إلى فترات وحقبات، وتعتمده منهجا رسميا يلقن للتلاميذ في المدارس دون أي نقد يذكر لمدى صحته، مع العلم أن التاريخ العربي الإسلامي لم يمر من نفس مراحل التاريخ الأوربي، كيف ذلك؟ عندما أراد الأوربيون وضع تحقيبا لتاريخهم اعتمدوا على مجموعة من الضوابط، أهمها تحديد مميزات وخصوصيات كل مرحلة على مستويات متعددة، ولهذا نجد أن كل حقبة مرتبطة بخاصية معينة تختلف عن باقي الحقب كما سنرى لاحقا. فالانتقال من فترة إلى فترة أخرى حسب التحقيب الأوربي يستوجب الانتقال من بنيات قديمة إلى أخرى جديدة في جميع المستويات، وكمثال على كل هذا سنركز على الانتقال من الحقبة الوسيطية إلى الحديثة في أوربا خلال القرن الخامس عشر، فالأمر لم يتم بطريقة اعتباطية، بل نتيجة ظهور بنيات حديثة على حساب أخرى قديمة، ونلخص هذه التغيرات في نقطتين:
الانتقال من البنية الفيودالية القائمة على استعباد الناس إلى بنية رأسمالية لا تؤمن إلا بالحرية وبالفردانية
الانتقال من بنية فكرية/كنسية تحرم على الإنسان استعمال عقله وعليه أن يقضي حياته عابدا طالبا رضا خالقه، إلى أخرى جديدة تؤكد على حرية الإنسان وإبداعه وقدرته على فهم الطبيعة والسيطرة عليها عن طريق استخدام العقل. بعد أن قمنا بتوضيح بسيط على مدى دقة التحقيب الأوربي وتناسبه مع واقعهم التاريخي، ننتقل لبيت القصيد وهو الجانب الثاني من حديثنا المتعلق بالتحقيب المغربي أو الإسلامي والمقتبس من نفس النموذج، ونبدأ من فرضية مفادها هل يمكن أن يتطابق هذا التحقيب مع الواقع التاريخي المغربي/الإسلامي؟ ولكي نساير نفس السياق، سنناقش إشكالية التحقيب الإسلامي في نفس الفترة المتحدث عنها سابقا، أي الانتقال من الوسيطية إلى الحديثة. فإذا كانت أوربا تحدد هذا التحول أو بالأحرى الانتقال في فترة القرن الخامس عشر؟ فهل يمكننا الحديث عن هذا التحول بالمغرب بنفس الفترة؟ للإجابة عن هذا السؤال سنعمل على قراءة بسيطة لمختلف بنيات المجتمع المغربي في نفس الفترة، ونوجزها كالتالي:
على المستوى الاقتصادي: ظل قائما على نمط إنتاج زراعي إلى حدود فترة الاستعمار، إلى حين قامت فرنسا بتحديث أساليب الإنتاج وتطويرها.
من الناحية السياسية: نظام إسلامي قائم على الاحتكار العمودي للسلطة، حيث لا يمكننا التفريق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبينهم وبين القضائية، إلى حدود المنتصف الثاني من القرن العشرين حيث فرضت التحولات العالمية على الدولة، وضع مجموعة إصلاحات تتماشى مع المفاهيم الجديدة (الحرية، الديمقراطية، اليبيرالية، فصل السلط ...)، ومن أجل تجاوز هذا الإشكال والاستمرار على نفس النهج السياسي، تم إدخال المفاهيم الجديدة على مستوى الخطاب السياسي فقط مع الاحتفاظ بنفس الهيكل القديم. على المستوى الفكري: لقد ظل ومازال الدين هو المؤطر الأساسي لكل العلاقات والتشريعات. وفي الأخير وحسب ما تطرقنا له فإنه إلى حدود فترة الاستعمار لا يمكننا الحديث عن فترة حديثة بالمغرب، أما إذا اعتمدنا على تحليل جميع البنيات في تتبع التحولات الحاصلة، فإننا سنتأكد من أننا مازلنا نعيش الفترة الوسيطية باعتبار أن النمط الفكري المغربي والإسلامي عموما ظل محافظا على نفس السيرورة اللهم بعض المتغيرات التي تفرضها التحولات العالمية.
تحقيب تاريخ المغرب القديم بين التقسيم الإجرائي والدلالات الحضارية
• التاريخ القديم والذي يبدأ بظهور الحروف الأبجدية وينتهي بسقوط روما؛
• التاريخ الوسيط الذي ينتهي باكتشاف أمريكا؛
• التاريخ الحديث والذي ينتهي بالثورة الفرنسية؛
• التاريخ المعاصر الذي ينتهي بالحرب العالمية الثانية، والتي تشكل في حد ذاتها بداية التاريخ الحديث حسب الأستاذ المحاضر.
وأبرز الأستاذ ليمان، في هذا اللقاء الذي حضره كل من السادة: أحمد بوكوس عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وعمار أكراز المدير المساعد للمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث ومصطفى أعشي أستاذ التاريخ القديم وعدد من المهتمين، الأهمية التي يكتسيها هذا التحقيب وخاصة أنه عملية أكاديمية محضة، تهدف تسهيل دراسة التاريخ، موضحا أن هذا التقسيم العالمي المنجز من طرف مؤرخي أوربا والغرب لا يخدم مصالح الحضارات الأخرى على اعتبار تغييب شعوب هذه الحضارات التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في بناء الحضارة الإنسانية. وبخصوص التاريخ القديم لشمال إفريقيا، أوضح الأستاذ المحاضر أن الحقب المعمول بها في هذه الفترة هي الحقبة الفينيقية والبونية والموريطانية والرومانية والرومانية المتأخرة.
ووصف هذا التحقيب بالاستعماري لأنه يتحدث عن استعمار القرطاجيين والرومان لشمال إفريقيا، باستثناء الفترة الموريطانية وتساءل الأستاذ ليمان عن سبب تغييب دور الساكنة المحلية، وما هي أسباب إقصائها حتى في التسمية، وخاصة الأمازيغ، في الفترة المورية التي عرفت علاقات اقتصادية قائمة بين السكان المحليين والفينيقيين وخاصة على مستوى التبادل التجاري. كما أبرز أن منطقة شمال إفريقيا حافظت على استقلالها السياسي تجاه قرطاج، مضيفا أن الفترة الفينيقية القديمة عرفت تجمعات سوسيو اقتصادية وثقافية لأمازيغ شمال إفريقيا، وأعطى أمثلة من الفترة الموريطانية في عهد الملكين الأمازيغيين يوبا الثاني وبوكوس ( 80 ق م ) اللذين شكلت شمال إفريقيا في عهدهما قوة سياسية، بحيث ساهم يوبا الثاني في تطوير المؤسسات والمدن وأنشأ عاصمتين: موريطانيا الشرقية وموريطانيا الغربية.
وبعد تقديم شروحات حول كل فترة أشار الأستاذ ليمان إلى أن هذه الندوة تشكل مناسبة لتعميق التفكير حول إمكانية رد الاعتبار للتاريخ القديم ودور الساكنة المحلية في صياغة أحداثه، ودعا إلى وضع تحقيب علمي أكاديمي، ووضع كتابة جديدة لتاريخ المغرب تراعي العنصر المحلي، ورد الاعتبار لما قدمه في سجل التاريخ الإنساني، وذلك اعتمادا على تراكمات الوثائق والآثار.
وعلى هامش هذه الندوة أكد عمار أكراز في تصريح بالمناسبة أن مثل هذه اللقاءات تشكل مناسبة لإبراز أهمية الجذور التاريخية للحضارة الأمازيغية، وكذا البحث في الثقافة المادية للساكنة الأمازيغية، وذلك بشكل موضوعي علمي، خاصة وأن النصوص التاريخية قليلة إن لم نقل نادرة فيما يخص دور الأمازيغ في منظومة البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من الفترات الفينيقية والرومانية، كما أشار إلى أن إعادة التحقيب يستلزم أبحاثا موضوعية وعلمية دقيقة.
يوسف ميرة،إشكالية التحقيب المغربي/الإسلامي
عندما أراد الأوربيون وضع تحقيبا لتاريخهم اعتمدوا على مجموعة من الضوابط، أهمها تحديد مميزات وخصوصيات كل مرحلة على مستويات متعددة، ولهذا نجد أن كل حقبة مرتبطة بخاصية معينة تختلف عن باقي الحقب كما سنرى لاحقا. فالانتقال من فترة إلى فترة أخرى حسب التحقيب الأوربي يستوجب الانتقال من بنيات قديمة إلى أخرى جديدة في جميع المستويات، وكمثال على كل هذا سنركز على الانتقال من الحقبة الوسيطية إلى الحديثة في أوربا خلال القرن الخامس عشر، فالأمر لم يتم بطريقة اعتباطية، بل نتيجة ظهور بنيات حديثة على حساب أخرى قديمة، ونلخص هذه التغيرات في نقطتين:
الانتقال من البنية الفيودالية القائمة على استعباد الناس إلى بنية رأسمالية لا تؤمن إلا بالحرية وبالفردانية
الانتقال من بنية فكرية/كنسية تحرم على الإنسان استعمال عقله وعليه أن يقضي حياته عابدا طالبا رضا خالقه، إلى أخرى جديدة تؤكد على حرية الإنسان وإبداعه وقدرته على فهم الطبيعة والسيطرة عليها عن طريق استخدام العقل. بعد أن قمنا بتوضيح بسيط على مدى دقة التحقيب الأوربي وتناسبه مع واقعهم التاريخي، ننتقل لبيت القصيد وهو الجانب الثاني من حديثنا المتعلق بالتحقيب المغربي أو الإسلامي والمقتبس من نفس النموذج، ونبدأ من فرضية مفادها هل يمكن أن يتطابق هذا التحقيب مع الواقع التاريخي المغربي/الإسلامي؟ ولكي نساير نفس السياق، سنناقش إشكالية التحقيب الإسلامي في نفس الفترة المتحدث عنها سابقا، أي الانتقال من الوسيطية إلى الحديثة. فإذا كانت أوربا تحدد هذا التحول أو بالأحرى الانتقال في فترة القرن الخامس عشر؟ فهل يمكننا الحديث عن هذا التحول بالمغرب بنفس الفترة؟ للإجابة عن هذا السؤال سنعمل على قراءة بسيطة لمختلف بنيات المجتمع المغربي في نفس الفترة، ونوجزها كالتالي:
على المستوى الاقتصادي: ظل قائما على نمط إنتاج زراعي إلى حدود فترة الاستعمار، إلى حين قامت فرنسا بتحديث أساليب الإنتاج وتطويرها.
من الناحية السياسية: نظام إسلامي قائم على الاحتكار العمودي للسلطة، حيث لا يمكننا التفريق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وبينهم وبين القضائية، إلى حدود المنتصف الثاني من القرن العشرين حيث فرضت التحولات العالمية على الدولة، وضع مجموعة إصلاحات تتماشى مع المفاهيم الجديدة (الحرية، الديمقراطية، اليبيرالية، فصل السلط ...)، ومن أجل تجاوز هذا الإشكال والاستمرار على نفس النهج السياسي، تم إدخال المفاهيم الجديدة على مستوى الخطاب السياسي فقط مع الاحتفاظ بنفس الهيكل القديم.
على المستوى الفكري: لقد ظل ومازال الدين هو المؤطر الأساسي لكل العلاقات والتشريعات. وفي الأخير وحسب ما تطرقنا له فإنه إلى حدود فترة الاستعمار لا يمكننا الحديث عن فترة حديثة بالمغرب، أما إذا اعتمدنا على تحليل جميع البنيات في تتبع التحولات الحاصلة، فإننا سنتأكد من أننا مازلنا نعيش الفترة الوسيطية باعتبار أن النمط الفكري المغربي والإسلامي عموما ظل محافظا على نفس السيرورة اللهم بعض المتغيرات التي تفرضها التحولات العالمية.
السبت، 12 ديسمبر 2015
الجمعة، 4 ديسمبر 2015
العزوزي محمد،المغرب وحكومة بريطانيا نظرة موجزة عن التمثيل الدبلوماسي البريطاني في المغرب (1828-1886)
ظلت العلاقة بين المغرب ودول أوروبا قائمة منذ عصور خلت بحكم التقارب الجغرافي الذي ميز الطرفيين، واتسمت هذه العلاقات دوما بالمد والجزر، تتغير بتغير ميزان القوى وشروط الوضع الدولي والمتوسطي.
كما تحكمت هذه القاعدة نفسها في العلاقات المغربية البريطانية خلال القرن التاسع عشر، حيث ظهرت بوادر تقارب قوية بين الجانبين، وبحكم المشاكل التي كان يتخبط فيها المخزن المغربي وقتئذ، قدمت بريطانيا نفسها كوصي شرعي في قضايا مغربية الشأن، فلم تدخر جهدا في تقديم "النصيحة" للمخزن المغربي كلما تعلق الأمر بنازلة من النوازل التي تعرض لها خاصة خلال منتصف القرن التاسع عشر، و من الملاحظ ان ما ميز حكومة لندن عن غيرها من الدول الاجنبية، هو عدم لجوءها إلى استعمال القوة العسكرية، بل اكتفت بممارسة مجموعة من الضغوط الدبلوماسية.
إذا، فأين تتجلى مظاهر التمثيل الدبلوماسي البريطاني في مغرب القرن التاسع عشر ؟ والى أي حد نجحت بريطانيا في الحفاظ على موقعها المتميز داخل الايالة الشريفة ؟
اولا: جذور العلاقات المغربية البريطانية
1) العلاقات المغربية البريطانية على عهد الموحدين:
تفيد بعض الدراسات التاريخية المعتمدة، ان اصول العلاقة بين المغرب وانجلترا تعود لفترة محمد الناصر الموحدي (1167-1216)، حيث طالب الملك الانجليزي "جون" (1167-1216)، من الناصر الموحدي التحالف معه ضد الملك الفرنسي فيليب اوجستس، وضد السادة الإقطاعيين الانجليز. بل ونستشف من خلال نفس الدراسة ان الملك الانجليزي عبر للامبرطور المغربي عن رغبته في التنازل له عن الحكم والدخول تحت راية الإسلام.
وفي هذا الصدد نستنتج من نص الرسالة التي بعث بها الملك الانجليزي إلى الناصر الموحدي أن جوان: " أرسل عدد من المبعوثين السريين [...] ومعهم أوامره المقدسة إلى امير المؤمنين [...] ليبلغوه بأن ملكهم يسلم نفسه ومملكته إليه طواعية وانه يريد أن يكون تابعا له وعلى استعداد فوق كل ذلك لترك المسيحية واعتناق الإسلام ". (روجرز،32.) الا ان الملاحظ ان سفارة جون بأت بالفشل، بل وقبلت بالرفض، ذلك ان السلطان المغربي قدم للبعثة خطابا شديد اللهجة قائلا : " أما انتما فلا تأتيا لي ابدا بعد ذلك ولا اريد ان يصافح وجهي وجهيكما على الاطلاق، وان العمل الشائن لهذا المرتد الغبي (يقصد الملك الانجليزي جون) يجعل أنفاسي تضيق برائحته النتنة ". ومنذ ذلك الحين، يشير خالد بن الصغير أن علاقة المغرب مع بريطانيا ظلت خافتة، حيث انه منذ عهد الناصر الموحدي لم يحدث بين الطرفين ما يستحق ذكره من علاقات حتى بداية القرن السادس عشر، حيث ربطت انجلترا علاقة مكشوفة مع الدولة السعدية.
2) العلاقات المغربية – البريطانية على عهد السعديين :
شكلت المبادلات التجارية العنصر الأساس في ارتباط بريطانيا بالمغرب خلال العهد السعدي، ورغم صغر حجم هذه المبادلات، إلا أنها سمحت للطرفين بربط علاقات سياسية تمثلت في تبادل السفارات بين احمد المنصور السعدي والملكة اليزابت، بل وتطورات هذه العلاقات إلى عقد حلف عسكري ضد ملك اسبانيا فيليب الثاني، وقد تمكنت بريطانيا بفضل هذه العلاقة من الحصول على امتيازات خاصة لتجارها بالمغرب. وبعد وفاة المنصور السعدي ارتبط الطرفان بجانب آخر من العلاقات، تمثل في بعث الملك جاك الأول سنة 1610 للعاهل السعدي زيدان، بعثة سفارية ترأسها هاريسون، وكان الهدف منها هو إجراء مباحثات حول تسريح الأسرى البريطانيين المحجوزين وقتئذ بالمغرب، إلا انه رغم تردد السفارة على المغرب ثلاث مرات لم يتمكن الطرفان من الوصول إلى حل نهائي بخصوص الأسرى. وعقب دخول بريطانيا في حرب مع الاسبان في عهد تشارلز الأول (1625-1649)، حل المبعوث البريطاني هاريسون من جديد على المغرب أملا في الحصول من جهة على مساعدة قراصنة تطوان وسلا، ومن جهة أخرى للتباحث بشأن فك الأسرى البريطانيين، ورغم عدم حصول المبعوث البريطاني هاريسون على موافقة من السلطة المركزية على مطالبه، إلا ان المجهودات الدبلوماسية توجت باتفاق ثنائي مع المجاهد عبد الله العياشي دام مدة عشر سنوات التزم فيه لبريطانيا بمساعدتها في فك أسراها، مقابل الحصول على العدة والسلاح. و بعد مقتل المجاهد عبد الله العياشي، عقدت بريطانيا سنة 1636م، مع السلطان السعدي محمد الشيخ الصغير اتفاقية سلم وتجارة تضمنت 21 مادة، نصت على حرية التجارة والملاحة، وعلى التزام بريطانيا بعدم التعامل مع خصوم السعديين.
3) العلاقات المغربية - البريطانية على عهد العلويين (1662- 1822 )
لقد اتضح لحكومة بريطانيا أهمية موقع طنجة بالنسبة للمبادلات التجارية، ورغبة في ذلك ارتبطت بعلاقة مصاهرة سنة 1661، مع حكومة البرتغال التي تنازلت لها عن مدينة طنجة في 30 يناير 1662م. وقد استمتعت حكومة بريطانيا بهذا الثغر لأزيد من 22 سنة، رغم المشاكل العديد التي طرحتها مسألة توحيد المغرب تحت سلطة العلويين، الذين تمكنوا في عهد المولى اسماعيل من استرجاع مدينة طنجة سنة 1684 م، بعد أن قبل هذا الأخير تحرير تسعة وستين من الأسرى الانجليز، الأمر الذي فسح المجال للطرفين لتطبيع علاقات فيما بينهما، حيث تمكنا من ابرام معاهدة سلم وتجارة في تطوان سنة 7 يوليوز 1714م، ومن التوصل إلى تجديد صلاحياتها في 23 يناير 1721م. أما ابتداء من ثلاثينيات القرن 18 فتميزت العلاقات المغربية البريطانية بالتوتر المشوب بالحذر، نتيجة مساندة التجار البريطانيين بالأسلحة للأمير المستضيئ الذي أعلن عن ثورة بأصيلا ضد أخيه المولى عبد الله بن اسماعيل (1728-1757) ، وقد دفع العرض البريطاني الخليفة السلطاني سيدي محمد بن عبد الله إلى طرد التجار البريطانيين من مرسى اكادير، وإصدار أوامره بحجز كل السفن البريطانية المتجرئة على الدخول إلى المراسي المغربية.
كما عرفت العلاقات المغرب البريطانية عموما تحسنا ملاحظا خلال فترة حكم سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790)، تركزت على عقد اتفاقيات تجارية مكنت العاهل المغربي من الحصول على الأسلحة من بريطانيا، مقابل التزامه بتموين جبل طارق، وقد ظهرت ايضا بوادر علاقات قوية بين الطرفين خلال العهد السليماني الذي حاول من خلال التقارب البريطاني استغلال الفرصة لاسترجاع سبتة، إلا أن بريطانيا سرعان ما غيرت موقفها من حكومة مدريد.
ثانيا: المغرب وبريطانيا خلال القرن التاسع عشر
لقد تزايد الاهتمام البريطاني بالمجال المتوسطي خلال القرن 19 اكثر من أي وقت مضى، وخاصة بعد نهاية الحروب النابليونية (1792-1814)، التي توجت بعد حين بالغزو الفرنسي للجزائر سنة 1830. وللحفاظ على مصالحها الحيوية داخل حوض البحر الأبيض المتوسط، وجدت بريطانيا في المغرب المجال الأنسب لمراقبة مصالحها، ودخلت معه في علاقات وطيدة عرفت أوج قوتها منذ تعيين ادوارد دراموند هاي سنة 1829 م ممثلا لها بالايالة الشريفة، والذي لعب إلى جانب نجله جون دورا حاسما في تاريخ المغرب المعاصر. اذن، فأين يتجلى دور الممثل البريطاني في تمتين العلاقات المغربية البريطانية خلال القرن التاسع عشر ؟
I. الحضور البريطاني في المغرب:
1 ظروف تعيين القنصل البريطاني جون دراموند هاي بالمغرب
تولى القنصل البريطاني ادوارد دراموند هاي منصب القنصل العام لبريطانية بطنجة سنة 1829 وقام بمجهودات جبارة لصالح التاج البريطاني، لكن على اثر وفاته عينت بريطانيا في منصبه نجله جون دراموند هاي، الذي سبق له وان خاض تجربة دبلوماسية بالشرق الأوسط قبل حلوله بأرض المغرب، وأبان خلالها لبلاده عن كفاءة عالية رغم صغر سنه. فهو من أسرة ارستقراطية عاشت في بريطانيا، وتولى بعض أفرادها مناصب سياسية في الدولة، و تلقي جون دراموند هاي مراحل من تعليمه ابتداء من سنة 1832 بمدينة طنجة، لم يتفوق في مسيرته الدراسية لكنه تمكن من إتقان اللغة الفرنسية والاسبانية، بل وتعلم اللغة العربية وأصبح قادرا على الكتابة بها وترجمة بعض النصوص منها إلا الانجليزية. تمكن جون دراموند هاي طيلة تسع سنوات الأولى من تعيينه قنصلا عاما لبريطانيا في المغرب من الاطلاع عن كثب على مشاكل المغرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت له مشاركة فعلية في حل بعض الازمات المستعصية بين المخزن المغربي والدول الاوربية. كما وقف جون دراموند هاي –كما سيأتي- مواقفا جريئة في العديد من القضايا المغربية الشأن إلى حدود استقالته من منصبه سنة 1886 م
2 موقف جون دراموند هاي من قضايا مغربية :
أ) مسألة الإصلاح (التجارة نموذجا)
شكلت المبادلات التجارية كما اشرنا سابقا، ركيزة أساسية في ربط المغرب لعلاقات ثنائية مع حكومة لندن، وقد ظهرت أهمية التجارة بشكل ملموس خلال مغرب القرن التاسع عشر، رغم أن بعض السلاطين المغاربة ظلوا حريصين على مراقبة النشاط التجاري، والالتزام بتطبيق نظام الكونطردات؛ الذي يخول إلى بعض التجارة -خاصة اليهود منهم- المتاجرة في مواد معينة دون غيرها. وفي هذا الصدد يشير دانيل شروتر إلى أن المولى عبد الرحمان بن هشام (1822-1859) كان يرى أن المبادلات التجارية يجب أن تبقى محصورة أقصى ما يمكن في أيدي اليهود، وقد تأسف النائب القنصلي البريطاني "ولشاير" من هذه السياسية السلطانية حينما قال: " إن جلالة السلطان يشجع التجارة وهذا ما لم يفعله أسلافه قط، لكنه ويا للأسف يقدم السند ليهود لا يستحقونه، لأنهم بلا مبادئ " . لقد أثارت السياسة الحمائية التي ظل المخزن متشبثا بنهجها حفيظة الممثل البريطاني جون دراموند هاي، الذي دخل منذ سنة 1852 في مفاوضات عسيرة مع النائب السلطاني محمد الخطيب، وقدم انتقادات لاذعة للسياسة التجارية المعمول بها من طرف المخزن المغربي فقد رأى هاي ان هذه التجارة، لا تضمن مداخل قارة لخزينة المخزن. وان منع السلطان للمتاجرة في بعض المواد من الممكن أن ينتج عنه أضرارا بليغة بتجار الجملة أو التقسيط، بل وأن نذرت تلك المواد في الأسواق قد يؤدي إلا ارتفاع فاحش لأسعارها. فمن خلال هذا التحليل الاقتصادي الذي قدمه جون دراموند هاي لمحمد الخطيب خلص إلى أن تجاوز هذه المشاكل المتعلقة بالنشاط التجاري يكمن في ضرورة قيام المخزن بهذه " النصائح " :
- ضرورة تخلي المخزن عن نظام الكونطرادات ودعوته إلى الاقتداء بالامبراطورية العثمانية التي استفادت -حسب ادعاءات هاي- من النصائح البريطانية في ما يخص النشاط التجاري.
- حصر الرسوم الجمركية على الواردات في نسبة عشرة في المائة. لكن لقيت مقترحات هاي معارضة من فئة عريضة من التجار المغاربة الذي رأوا فيها، بحثا للجانب البريطاني عن مصالحتها الخاصة، وبرغبتها في التقليل من مداخل بيت المال.
وامام رفض المخزن المغربي لمطالب بريطانيا، شدد دراموند هاي من خطابه الدبلوماسي، ودعا محمد الخطيب إلى عقد مفاوضات بطنجة في 12 غشت 1853 التي أبدى مولاي عبد الرحمان ليونة من بعض مطالبها المتعلقة بإلغاء نظام الكونطرادات على تجارة الشاي والبن وغيرهما، وقد فتح هذا النجاح الذي حقق هاي شهيته لمطالبة المخزن بالمزيد من الامتيازات، فقرر تنظم زيارة خاص للقاء السلطان المولى عبد الرحمان بمراكش لعرض المشروع البريطاني عليه ، حيث حلت البعثة السفارية بمراكش يوم 18 مارس 1855 م.وبعد ثمان أيام من الانتظار استقبل المولى عبد الرحمان المبعوث البريطاني جون دراموند هاي الذي عرض عليه مذكرة بخصوص تحرير المبادلات التجارية بين الجانبين، كما دعا المخزن إلى الدخول في اتفاقية تجارية جديدة، والتي لم يكتب لها النجاح إلى في 9 دجنبر سنة 1856 م. وعن محتوى هذه المعاهدة والاتفاقية المرفقة بها يقول دانيل شروتر ما نصه : " نصت محتويات المعاهدة والاتفاقية المرفقة بها على تقديم الحماية الضرورية للرعايا البريطانيين ووكلائهم من المغاربة، كما التزم فيها المغرب بتوفير السكن والمخازن للرعايا البريطانيين، وبإلغاء العمل بجميع احتكارات السلع المستوردة ما عدا التبغ والكيف والأسلحة النارية ومواد أخرى قليلة، كما منع فرض أي ضرائب أو مكوس أخرى غير أداء الرسوم الجمركية عن الصادرات. وباختصار (يقول دانييل شروتر) فان محتويات بنود المعاهدة المبرمة بين البلدين [...] (كانت) كفيلة بضمان التحرير الكامل للمبادلات التجارية، (وبالتالي) فان معاهدة 1856 التجارية قد دشنت عهد "المبادلات التجارية الليبرالية" في المغرب ".
ب) الموقف البريطاني من الصراع المغربي الاسباني
يأتي الصراع المغربي الاسباني خلال منتصف القرن 19 في إطار بحث حكومة مدريد على موطأ قدم لها في البحر الأبيض المتوسط، وفي هذا الإطار تمكنت سنة 1848 من احتلال الجزر الجعفرية، ورغم التخوف البريطاني من الوجود الاسباني في هذه الجزر، إلا أنها اعتبرت وجودهم اقل خطرا وبأسا من الفرنسيين المحتلين للجزائر. ومن الملاحظ أن أعمال القرصنة والمناوشات بين الريفيين واسبانيي سبتة ومليلية شكلت دوما أزمة في العلاقات المغربية الاسبانية، إلى حدد جعل هذه الأخير تهدد بإعلان الحرب على المغرب، إلا أن بريطانيا التي كانت حريصة على بقاء المغرب مستقلا، سعت منذ البداية إلى محاولة تسوية الخلافات بين الجانبين، حيث أقنعت المخزن سنة 1858م بدفع الغرامة المالية التي فرضتها عليه حكومة مدريد على اثر اسر إحدى سفنها بالسواحل الريفية، بل ولتلافي الاصطدام مع الاسبان قبّل السلطان المولى عبد الرحمان خلال تسوية 24 غشت 1859 بتعديل حدود مليلية، إرضاء لحكومة مدريد وعملا "بنصائح " الدبلوماسية البريطانية، وقد رأى جون دراموند هاي أن هذا الإجراء كان معقولا، واتهم الاسبان بالسعي لإشعال نار الحرب مع المغرب، واتضح له ذلك جليا بعد أسبوع فقط من تسوية 24 غشت حيث حاول حكم سبتة أيضا في هذه المرة توسيع حدود مجاله الجغرافي على حساب التراب المغربي، الأمر الذي جعل الانجريين يحتجون بقوة على هذا الإجراء غير المشروع، بل ويتسللون ليلا لتهديم بعض المنشآت الاسبانية المتخمة للحدود بين المجالين. الأمر الذي دفع الاسبانيين إلى فرض شروط تعجيزية على المخزن، وأمروه بمعاقبة الانجريين "المتهمين" في تهديم أعمال البناء.
ظلت وزارة خارجية بريطانيا خلال هذه الأحداث تتواصل بمراسلات عن وضعية اسبانيي سبتة والانجريين، فكيف تعاملت مع تطور هذه النازلة بعد أن سعت منذ سنة 1845 للتسوية بين الاسبانيين و قبائل الريف المتخمة لثغري سبتة ومليلية ؟ من الملاحظ ان هاي سعى -كعادته- إلى اقناع المخزن بالموافقة على مطالب حاكم سبتة، إلا أن الاطماع الاسبانية لم تتوقف عند هذا الحد، بل سرعان ما لجأت إلى الضغط على المخزن بالقوة العسكرية وإرغامه على المزيد من التنازلات، ولما كانت وضعية العرش بالمغرب -بعد وفاة المولى عبد الرحمان واعتلاء ابنه سيدي محمد العرش- لا تسمح بمفاوضة الاسبان، حاصرت الجيوش الاسبانية مدينة طنجة وتطوان والعرائش، الأمر الذي جعل المغرب يدخل غمار حرب محسومة النتائج، هذه الحرب التي عرفت في الأدبيات التاريخية لمغرب القرن التاسع عشر بحرب تطوان، تكبد المغرب خلال نهايتها هزيمة كان لها ما بعدها. وفي أعقاب هذه الحرب تأسف النائب السلطاني محمد الخطيب من عدم مساندة بريطانيا للمغرب عسكريا، حيث راسل جون دراموند هاي وزارة الخارجية البريطانية قائلا إن النائب السلطاني : "مندهش للغاية وحزين اشد الحزن ليعلم أن الحكومة البريطانية، وعلى عكس سياستها التي اتبعتها زمنا طويلا، تتخلى عن المغرب في اللحظة التي يتعرض فيها للهجوم من قوة اجنبية ". (روجرز،225 ) من المعلوم ان احداث حرب تطوان انتهت بعقد معاهدة تسوية في 26 ابريل 1860م، لعبت فيها بريطانيا دورا مكشوفا في إرغام المخزن على الرضوخ للمطالب الاسبانية غير المنتهية. ان الدبلوماسية البريطانية سعت منذ 1845 على تتبع الخلاف المغربي الاسباني، وكانت دائما ما تحاول "تسوية " الخلافات بين الطرفين على حساب المخزن المغربي، كما كانت مقتنعة أن المطالب الاسبانية لا يمكن أن تنتهي إلا بحصولها على ما يضمن لها موطأ قدم ثابت في المغرب، ورغم ذلك رأت حكومة لندن في اسبانيا اشد خطر على مصالحها في المجال المتوسطي بوجه عام.
ج) موقف بريطانية من الحماية القنصلية :
لم تكن المعاهدة المغربية البريطانية لسنة 1856، تتضمن فقط امتيازات تجارية للبريطانيين، وإنما من جملة ما نصت عليه أيضا ولتسهيل ممارسة النشاط التجاري -حسب زعم حكومة بريطانيا- نجد مسألة الحماية " التي تعفي صاحبها (كما يقول روجرز) من المثول أمام القضاء المغربي وكذا من دفع الضرائب والخدمة العسكرية "، وقد حصلت بريطانيا على هذا الامتياز وفق سند قانوني نصت عليه المادة الثالثة من معاهدة 1856 التي جاء فيها انه : " اذا انيطت مهام القنصلية البريطانية بمغربي فان الحماية القنصلية تنسحب عليه وعلى اهله المقيمين معه بمنزله، كما انه يعفى من أداء الضرائب كيفما كان العنوان الذي تأخذ به والجهة التي تصرف فيها " (بنمنصور،14) ومع انتشار الحمايات الاجنبية بين صفوف المغاربة، اصبح المخزن يدق منها ناقوس الخطر ، للمشاكل التي اصبحت تطرحها علاقة المخزن بالمحميين، الأمر الذي جعله يفكر في طريق للحد من خطورتها، ونجد ان دراموند هاي يشاطر رأي السلطان سيدي محمد في هذه المسألة، ففي رسالة له مؤرخة في 28 ابريل 1863 إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول هاي: " أخشى أن تكون مسألة الحماية من المسائل التي ستؤدي إلى اضطراب كبير، وإذا لم يتم تنظيمها فإنها لن تؤدي فحسب إلى عرقلة تقدم الحضارة وزيادة التجارة في تلك البلاد، بل إنها قد تؤدي إن عاجلا أو أجلا إلى حالة من الفوضى كما قد تؤثر في استقلال السلطان" . ورغم هذا الخطاب الذي يبدو من خلاله جون دراموند هاي متعاطفا مع قضايا المخزن، فانه لم يدخر جهدا للضغط على المغرب كلما أحس بتهديد لمصالح بريطانيا ورعيتها، إلا أن حكومة لندن في شخص ممثلها جون دراموند هاي أبدت رغبة أكيدة خلال العهد الحسني لحل مشكل الحمايات غير القانونية، ويذهب خالد بن الصغير في الصفحة 327 من كتابه المعتمد، على ان المخزن نسق مع دراموند هاي في شأن بعثة محمد الزبدي للدول الأوربية لإبلاغهم تقريرا للسلطان المولى الحسن بخصوص ظاهرة الحماية. وعلى العموم، يمكن تلخيص المجهود المغربي البريطاني للحد من استفحال الظاهرة في النقط التالية:
- سفارة محمد الزبدي سنة 1876م إلى الدول الاوربية لمناقشة قضايا متعلقة بمسألة الحمايات.
- محادثات طنجة ما بين 1877-1879 باقتراح مخزني وبتدعيم بريطاني.
- انعقاد مؤتمر مدريد في 19 ماي 1880
ت) موقف بريطانيا من اليهود المغاربة.
شكل اليهود المغاربة أقلية دينية انصهرت في المجتمع المغربي، وتبوأ بعضها مكانة هامة عند السلاطين المغاربة خلال القرن 19 م، كما استفادوا بدورهم من الامتيازات التي منحها إياهم المخزن و الدول الأوربية المتعاملة معهم، وقد شكلت قضية اليهود المغاربة ورقة ضغط لم تستغلها بريطانيا فحسب، وإنما ايضا بقي الأجناس الاخرى رغبة في (حمايتهم) أو للضغط على المخزن للحصول على امتيازات جديدة. وقد أبانت حكومة بريطانيا -خلال الفترة موضوع الدراسة- عن اهتمام بالغ بالمغاربة اليهود عبر مجموعة من الممارسات نذكر من بينها ما يلي:
- الضغط على المخزن لتسوية بعض الخلافات المفتعلة بين المغاربة المسلمين واليهود. (مثل قضية حاييم المالح مع عامل الدار البيضاء).
- منح حمايات قنصلية لليهود المغاربة حرصا منهم على خدمة مصالحها. - زيارة موسى مونتفيوري عميد الجالية اليهودية في بريطانيا و أحد اكبر أثريائها إلى المغربي في 11 دجنبر 1863 م للتدارس مع السلطان المغربي وضعية اليهود المغاربة، وتمكنه من انتزاع ظهير سلطاني ينص على التسوية في الأحكام بين المغاربة المسلمين واليهود . ثالثا: بداية تراجع النفوذ البريطاني بالمغرب
1) الرغبة في تجديد معاهدة التجارة:
حاول جون دراموند هاي اقناع وزارة خارجية بلاده برغبته في مطالبة المخزن بتعديل معاهدة 1856، إلا أن طلبه هذا لم يلقى الترحيب من قبل حكومة لندن، التي رأت في أن معاهدة 1856 م أفضل وسيلة لضمان مصالحها في المغرب، وفي أعقب هذا الرّد أبدى كذلك تجار جبل طارق لهاي رغبتهم في حث المخزن على تقديم مزيد من الامتيازات التجارية، خاصة تعديل الفصل السابع من المعاهدة الذي ينص على دفع عشرة في المائة من التعريفة الجمركية على البضائع المستوردة، ورغبتهم كذلك في تحرير المتاجرة في بعض المنتوجات التي لا يسمح المخزن بتصديرها إلا بترخيص منه، مثل الحبوب والمواشي، والخشب ... وأمام هذه المطالب قام هاي سنة 1880 بزيارة لمدينة فاس، حيث استقبل المولى الحسن وعرض عليه مشروعه التجاري، إلا أن العاهل المغربي وعدّ جون دراموند هاي بأخذ مقترحاته بعين الاعتبار.
2) صمود مغربي أمام المطالب البريطانية.
لقد انتظر هاي من المخزن قرابة أحد عشر شهرا للردّ على مشروعه المتعلق بإحداث تعديلات على معاهدة التجارة، وأمام الضغط الذي مارسه هاي على النائب السلطاني محمد بركاش، قدم هذا الأخير اعتراضات المخزن على المقترحات البريطانية، كما قدم تبريرات لذلك الرفض من خلال العناصر التالية: - تخفيض الرسوم على صادرات الحبوب إلى 5 % ، أمر لا يمكن الموافقة عليه، لكون ان مستفادات المراسي ستنخفض ايضا بمقدار النصف. - لا يمكن الموافقة على إلغاء احتكار الادوات الحربية، لان استرادها يجب ان يظل في يد المخزن تفاديا للفتن في اوساط القبائل.
- لا يمكن الموافق على تصدير الدواب والمواشي والاخشاب وغيرها لحاجة الرعية اليها. - إن المخزن لا يرى ضرورة في الموافق على توحيد المكايل والموازين في المراسي. ورغم احتجاج جون دراموند هاي على موقف المخزن من مسألة تحديث معاهدة 1856 م إلا أن هذا الأخير ظل متشبثا بمعارضته، خاصة وان كل الدول الأوربية المتعاملة معه أبدت رغبتها في تعديل معاهداتها. لقد انتهت مهمة جون دراموند هاي الدبلوماسية في المغرب سنة 1886 دون تحقيقه للنتائج التي كان يرغب فيها، وقد بدت منذئذ -وامام تزايد حدة التنافس الاوربي على المغرب- تظهر بوادر تراجع مكانة حكومة بريطانيا في المغرب حيث يقول روجرز في هذا الصدد: "وقد بدا وضحا بعد وقت قصير انه بعد رحيل سير جون (دراموند هاي) لم يعد المولى الحسن راغبا في الاعتماد على نصائح البريطانيين أو معونتهم" .
خاتمة:
انطلاقا مما سبق يمكن القول، عن العلاقات المغربية البريطانية خلال القرن التاسع عشر أنها كانت محكومة بمجموعة من الخصوصيات نذكر منها ما يلي:
شكلت المعاملات التجارية ومنذ العهد السعدي أساس التقارب المغربي البريطاني.
موقع المغرب الجغرافي جعل بريطانيا تراهن عليه، للحفاظ على مصالحها التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
حسن اختيار بريطانيا لممثليها في المغرب جعلها تحظى بامتيازات كبيرة. حنكة جون درموند هاي مكنته من القيام بدور الوسيط بين المغرب والدول الأجنبية على الوجه المطلوب.
شدة المنافسة بين القوى الاوربية على المغرب كسر مكانة بريطانية عند المخزن المغربي.
لائحة المراجع المعتمدة:
خالد بن الصغير، المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (1856-1886)، منشورات كلية الآداب بالرباط، ط، 2، 1997.
ـ دانييل شروتر، تجار الصويرة: المجتمع الحضري والامبريالية في جنوب غرب المغرب (1844-1886)، ترجمة خالد بن الصغير ،منشورات كلية الآداب بالرباط، ط، 1997.
ـروجرز (ب،ج)، تاريخ العلاقات الانجليزية –المغربية حتى عام 1900، ترجمة يونان لبيب رزق، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط،1981.
ـ عبد الوهاب بن منصور، مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب من نشأتها إلى مؤتمر مدريد سنة 1880، المطبعة الملكية بالرباط، ط، 2، 1985.
ـ خالد بن الصغير، ” المغرب بين النفوذ البريطاني والالماني خلال القرن التاسع عشر“ ، ضمن كتاب: المغرب وألمانيا، منشورات كلية الآداب، بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات، رقم:17، ط، 1997.