ظلت العلاقة بين المغرب ودول أوروبا قائمة منذ عصور خلت بحكم التقارب الجغرافي الذي ميز الطرفيين، واتسمت هذه العلاقات دوما بالمد والجزر، تتغير بتغير ميزان القوى وشروط الوضع الدولي والمتوسطي.
كما تحكمت هذه القاعدة نفسها في العلاقات المغربية البريطانية خلال القرن التاسع عشر، حيث ظهرت بوادر تقارب قوية بين الجانبين، وبحكم المشاكل التي كان يتخبط فيها المخزن المغربي وقتئذ، قدمت بريطانيا نفسها كوصي شرعي في قضايا مغربية الشأن، فلم تدخر جهدا في تقديم "النصيحة" للمخزن المغربي كلما تعلق الأمر بنازلة من النوازل التي تعرض لها خاصة خلال منتصف القرن التاسع عشر، و من الملاحظ ان ما ميز حكومة لندن عن غيرها من الدول الاجنبية، هو عدم لجوءها إلى استعمال القوة العسكرية، بل اكتفت بممارسة مجموعة من الضغوط الدبلوماسية.
إذا، فأين تتجلى مظاهر التمثيل الدبلوماسي البريطاني في مغرب القرن التاسع عشر ؟ والى أي حد نجحت بريطانيا في الحفاظ على موقعها المتميز داخل الايالة الشريفة ؟
اولا: جذور العلاقات المغربية البريطانية
1) العلاقات المغربية البريطانية على عهد الموحدين:
تفيد بعض الدراسات التاريخية المعتمدة، ان اصول العلاقة بين المغرب وانجلترا تعود لفترة محمد الناصر الموحدي (1167-1216)، حيث طالب الملك الانجليزي "جون" (1167-1216)، من الناصر الموحدي التحالف معه ضد الملك الفرنسي فيليب اوجستس، وضد السادة الإقطاعيين الانجليز. بل ونستشف من خلال نفس الدراسة ان الملك الانجليزي عبر للامبرطور المغربي عن رغبته في التنازل له عن الحكم والدخول تحت راية الإسلام.
وفي هذا الصدد نستنتج من نص الرسالة التي بعث بها الملك الانجليزي إلى الناصر الموحدي أن جوان: " أرسل عدد من المبعوثين السريين [...] ومعهم أوامره المقدسة إلى امير المؤمنين [...] ليبلغوه بأن ملكهم يسلم نفسه ومملكته إليه طواعية وانه يريد أن يكون تابعا له وعلى استعداد فوق كل ذلك لترك المسيحية واعتناق الإسلام ". (روجرز،32.) الا ان الملاحظ ان سفارة جون بأت بالفشل، بل وقبلت بالرفض، ذلك ان السلطان المغربي قدم للبعثة خطابا شديد اللهجة قائلا : " أما انتما فلا تأتيا لي ابدا بعد ذلك ولا اريد ان يصافح وجهي وجهيكما على الاطلاق، وان العمل الشائن لهذا المرتد الغبي (يقصد الملك الانجليزي جون) يجعل أنفاسي تضيق برائحته النتنة ". ومنذ ذلك الحين، يشير خالد بن الصغير أن علاقة المغرب مع بريطانيا ظلت خافتة، حيث انه منذ عهد الناصر الموحدي لم يحدث بين الطرفين ما يستحق ذكره من علاقات حتى بداية القرن السادس عشر، حيث ربطت انجلترا علاقة مكشوفة مع الدولة السعدية.
2) العلاقات المغربية – البريطانية على عهد السعديين :
شكلت المبادلات التجارية العنصر الأساس في ارتباط بريطانيا بالمغرب خلال العهد السعدي، ورغم صغر حجم هذه المبادلات، إلا أنها سمحت للطرفين بربط علاقات سياسية تمثلت في تبادل السفارات بين احمد المنصور السعدي والملكة اليزابت، بل وتطورات هذه العلاقات إلى عقد حلف عسكري ضد ملك اسبانيا فيليب الثاني، وقد تمكنت بريطانيا بفضل هذه العلاقة من الحصول على امتيازات خاصة لتجارها بالمغرب. وبعد وفاة المنصور السعدي ارتبط الطرفان بجانب آخر من العلاقات، تمثل في بعث الملك جاك الأول سنة 1610 للعاهل السعدي زيدان، بعثة سفارية ترأسها هاريسون، وكان الهدف منها هو إجراء مباحثات حول تسريح الأسرى البريطانيين المحجوزين وقتئذ بالمغرب، إلا انه رغم تردد السفارة على المغرب ثلاث مرات لم يتمكن الطرفان من الوصول إلى حل نهائي بخصوص الأسرى. وعقب دخول بريطانيا في حرب مع الاسبان في عهد تشارلز الأول (1625-1649)، حل المبعوث البريطاني هاريسون من جديد على المغرب أملا في الحصول من جهة على مساعدة قراصنة تطوان وسلا، ومن جهة أخرى للتباحث بشأن فك الأسرى البريطانيين، ورغم عدم حصول المبعوث البريطاني هاريسون على موافقة من السلطة المركزية على مطالبه، إلا ان المجهودات الدبلوماسية توجت باتفاق ثنائي مع المجاهد عبد الله العياشي دام مدة عشر سنوات التزم فيه لبريطانيا بمساعدتها في فك أسراها، مقابل الحصول على العدة والسلاح. و بعد مقتل المجاهد عبد الله العياشي، عقدت بريطانيا سنة 1636م، مع السلطان السعدي محمد الشيخ الصغير اتفاقية سلم وتجارة تضمنت 21 مادة، نصت على حرية التجارة والملاحة، وعلى التزام بريطانيا بعدم التعامل مع خصوم السعديين.
3) العلاقات المغربية - البريطانية على عهد العلويين (1662- 1822 )
لقد اتضح لحكومة بريطانيا أهمية موقع طنجة بالنسبة للمبادلات التجارية، ورغبة في ذلك ارتبطت بعلاقة مصاهرة سنة 1661، مع حكومة البرتغال التي تنازلت لها عن مدينة طنجة في 30 يناير 1662م. وقد استمتعت حكومة بريطانيا بهذا الثغر لأزيد من 22 سنة، رغم المشاكل العديد التي طرحتها مسألة توحيد المغرب تحت سلطة العلويين، الذين تمكنوا في عهد المولى اسماعيل من استرجاع مدينة طنجة سنة 1684 م، بعد أن قبل هذا الأخير تحرير تسعة وستين من الأسرى الانجليز، الأمر الذي فسح المجال للطرفين لتطبيع علاقات فيما بينهما، حيث تمكنا من ابرام معاهدة سلم وتجارة في تطوان سنة 7 يوليوز 1714م، ومن التوصل إلى تجديد صلاحياتها في 23 يناير 1721م. أما ابتداء من ثلاثينيات القرن 18 فتميزت العلاقات المغربية البريطانية بالتوتر المشوب بالحذر، نتيجة مساندة التجار البريطانيين بالأسلحة للأمير المستضيئ الذي أعلن عن ثورة بأصيلا ضد أخيه المولى عبد الله بن اسماعيل (1728-1757) ، وقد دفع العرض البريطاني الخليفة السلطاني سيدي محمد بن عبد الله إلى طرد التجار البريطانيين من مرسى اكادير، وإصدار أوامره بحجز كل السفن البريطانية المتجرئة على الدخول إلى المراسي المغربية.
كما عرفت العلاقات المغرب البريطانية عموما تحسنا ملاحظا خلال فترة حكم سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790)، تركزت على عقد اتفاقيات تجارية مكنت العاهل المغربي من الحصول على الأسلحة من بريطانيا، مقابل التزامه بتموين جبل طارق، وقد ظهرت ايضا بوادر علاقات قوية بين الطرفين خلال العهد السليماني الذي حاول من خلال التقارب البريطاني استغلال الفرصة لاسترجاع سبتة، إلا أن بريطانيا سرعان ما غيرت موقفها من حكومة مدريد.
ثانيا: المغرب وبريطانيا خلال القرن التاسع عشر
لقد تزايد الاهتمام البريطاني بالمجال المتوسطي خلال القرن 19 اكثر من أي وقت مضى، وخاصة بعد نهاية الحروب النابليونية (1792-1814)، التي توجت بعد حين بالغزو الفرنسي للجزائر سنة 1830. وللحفاظ على مصالحها الحيوية داخل حوض البحر الأبيض المتوسط، وجدت بريطانيا في المغرب المجال الأنسب لمراقبة مصالحها، ودخلت معه في علاقات وطيدة عرفت أوج قوتها منذ تعيين ادوارد دراموند هاي سنة 1829 م ممثلا لها بالايالة الشريفة، والذي لعب إلى جانب نجله جون دورا حاسما في تاريخ المغرب المعاصر. اذن، فأين يتجلى دور الممثل البريطاني في تمتين العلاقات المغربية البريطانية خلال القرن التاسع عشر ؟
I. الحضور البريطاني في المغرب:
1 ظروف تعيين القنصل البريطاني جون دراموند هاي بالمغرب
تولى القنصل البريطاني ادوارد دراموند هاي منصب القنصل العام لبريطانية بطنجة سنة 1829 وقام بمجهودات جبارة لصالح التاج البريطاني، لكن على اثر وفاته عينت بريطانيا في منصبه نجله جون دراموند هاي، الذي سبق له وان خاض تجربة دبلوماسية بالشرق الأوسط قبل حلوله بأرض المغرب، وأبان خلالها لبلاده عن كفاءة عالية رغم صغر سنه. فهو من أسرة ارستقراطية عاشت في بريطانيا، وتولى بعض أفرادها مناصب سياسية في الدولة، و تلقي جون دراموند هاي مراحل من تعليمه ابتداء من سنة 1832 بمدينة طنجة، لم يتفوق في مسيرته الدراسية لكنه تمكن من إتقان اللغة الفرنسية والاسبانية، بل وتعلم اللغة العربية وأصبح قادرا على الكتابة بها وترجمة بعض النصوص منها إلا الانجليزية. تمكن جون دراموند هاي طيلة تسع سنوات الأولى من تعيينه قنصلا عاما لبريطانيا في المغرب من الاطلاع عن كثب على مشاكل المغرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت له مشاركة فعلية في حل بعض الازمات المستعصية بين المخزن المغربي والدول الاوربية. كما وقف جون دراموند هاي –كما سيأتي- مواقفا جريئة في العديد من القضايا المغربية الشأن إلى حدود استقالته من منصبه سنة 1886 م
2 موقف جون دراموند هاي من قضايا مغربية :
أ) مسألة الإصلاح (التجارة نموذجا)
شكلت المبادلات التجارية كما اشرنا سابقا، ركيزة أساسية في ربط المغرب لعلاقات ثنائية مع حكومة لندن، وقد ظهرت أهمية التجارة بشكل ملموس خلال مغرب القرن التاسع عشر، رغم أن بعض السلاطين المغاربة ظلوا حريصين على مراقبة النشاط التجاري، والالتزام بتطبيق نظام الكونطردات؛ الذي يخول إلى بعض التجارة -خاصة اليهود منهم- المتاجرة في مواد معينة دون غيرها. وفي هذا الصدد يشير دانيل شروتر إلى أن المولى عبد الرحمان بن هشام (1822-1859) كان يرى أن المبادلات التجارية يجب أن تبقى محصورة أقصى ما يمكن في أيدي اليهود، وقد تأسف النائب القنصلي البريطاني "ولشاير" من هذه السياسية السلطانية حينما قال: " إن جلالة السلطان يشجع التجارة وهذا ما لم يفعله أسلافه قط، لكنه ويا للأسف يقدم السند ليهود لا يستحقونه، لأنهم بلا مبادئ " . لقد أثارت السياسة الحمائية التي ظل المخزن متشبثا بنهجها حفيظة الممثل البريطاني جون دراموند هاي، الذي دخل منذ سنة 1852 في مفاوضات عسيرة مع النائب السلطاني محمد الخطيب، وقدم انتقادات لاذعة للسياسة التجارية المعمول بها من طرف المخزن المغربي فقد رأى هاي ان هذه التجارة، لا تضمن مداخل قارة لخزينة المخزن. وان منع السلطان للمتاجرة في بعض المواد من الممكن أن ينتج عنه أضرارا بليغة بتجار الجملة أو التقسيط، بل وأن نذرت تلك المواد في الأسواق قد يؤدي إلا ارتفاع فاحش لأسعارها. فمن خلال هذا التحليل الاقتصادي الذي قدمه جون دراموند هاي لمحمد الخطيب خلص إلى أن تجاوز هذه المشاكل المتعلقة بالنشاط التجاري يكمن في ضرورة قيام المخزن بهذه " النصائح " :
- ضرورة تخلي المخزن عن نظام الكونطرادات ودعوته إلى الاقتداء بالامبراطورية العثمانية التي استفادت -حسب ادعاءات هاي- من النصائح البريطانية في ما يخص النشاط التجاري.
- حصر الرسوم الجمركية على الواردات في نسبة عشرة في المائة. لكن لقيت مقترحات هاي معارضة من فئة عريضة من التجار المغاربة الذي رأوا فيها، بحثا للجانب البريطاني عن مصالحتها الخاصة، وبرغبتها في التقليل من مداخل بيت المال.
وامام رفض المخزن المغربي لمطالب بريطانيا، شدد دراموند هاي من خطابه الدبلوماسي، ودعا محمد الخطيب إلى عقد مفاوضات بطنجة في 12 غشت 1853 التي أبدى مولاي عبد الرحمان ليونة من بعض مطالبها المتعلقة بإلغاء نظام الكونطرادات على تجارة الشاي والبن وغيرهما، وقد فتح هذا النجاح الذي حقق هاي شهيته لمطالبة المخزن بالمزيد من الامتيازات، فقرر تنظم زيارة خاص للقاء السلطان المولى عبد الرحمان بمراكش لعرض المشروع البريطاني عليه ، حيث حلت البعثة السفارية بمراكش يوم 18 مارس 1855 م.وبعد ثمان أيام من الانتظار استقبل المولى عبد الرحمان المبعوث البريطاني جون دراموند هاي الذي عرض عليه مذكرة بخصوص تحرير المبادلات التجارية بين الجانبين، كما دعا المخزن إلى الدخول في اتفاقية تجارية جديدة، والتي لم يكتب لها النجاح إلى في 9 دجنبر سنة 1856 م. وعن محتوى هذه المعاهدة والاتفاقية المرفقة بها يقول دانيل شروتر ما نصه : " نصت محتويات المعاهدة والاتفاقية المرفقة بها على تقديم الحماية الضرورية للرعايا البريطانيين ووكلائهم من المغاربة، كما التزم فيها المغرب بتوفير السكن والمخازن للرعايا البريطانيين، وبإلغاء العمل بجميع احتكارات السلع المستوردة ما عدا التبغ والكيف والأسلحة النارية ومواد أخرى قليلة، كما منع فرض أي ضرائب أو مكوس أخرى غير أداء الرسوم الجمركية عن الصادرات. وباختصار (يقول دانييل شروتر) فان محتويات بنود المعاهدة المبرمة بين البلدين [...] (كانت) كفيلة بضمان التحرير الكامل للمبادلات التجارية، (وبالتالي) فان معاهدة 1856 التجارية قد دشنت عهد "المبادلات التجارية الليبرالية" في المغرب ".
ب) الموقف البريطاني من الصراع المغربي الاسباني
يأتي الصراع المغربي الاسباني خلال منتصف القرن 19 في إطار بحث حكومة مدريد على موطأ قدم لها في البحر الأبيض المتوسط، وفي هذا الإطار تمكنت سنة 1848 من احتلال الجزر الجعفرية، ورغم التخوف البريطاني من الوجود الاسباني في هذه الجزر، إلا أنها اعتبرت وجودهم اقل خطرا وبأسا من الفرنسيين المحتلين للجزائر. ومن الملاحظ أن أعمال القرصنة والمناوشات بين الريفيين واسبانيي سبتة ومليلية شكلت دوما أزمة في العلاقات المغربية الاسبانية، إلى حدد جعل هذه الأخير تهدد بإعلان الحرب على المغرب، إلا أن بريطانيا التي كانت حريصة على بقاء المغرب مستقلا، سعت منذ البداية إلى محاولة تسوية الخلافات بين الجانبين، حيث أقنعت المخزن سنة 1858م بدفع الغرامة المالية التي فرضتها عليه حكومة مدريد على اثر اسر إحدى سفنها بالسواحل الريفية، بل ولتلافي الاصطدام مع الاسبان قبّل السلطان المولى عبد الرحمان خلال تسوية 24 غشت 1859 بتعديل حدود مليلية، إرضاء لحكومة مدريد وعملا "بنصائح " الدبلوماسية البريطانية، وقد رأى جون دراموند هاي أن هذا الإجراء كان معقولا، واتهم الاسبان بالسعي لإشعال نار الحرب مع المغرب، واتضح له ذلك جليا بعد أسبوع فقط من تسوية 24 غشت حيث حاول حكم سبتة أيضا في هذه المرة توسيع حدود مجاله الجغرافي على حساب التراب المغربي، الأمر الذي جعل الانجريين يحتجون بقوة على هذا الإجراء غير المشروع، بل ويتسللون ليلا لتهديم بعض المنشآت الاسبانية المتخمة للحدود بين المجالين. الأمر الذي دفع الاسبانيين إلى فرض شروط تعجيزية على المخزن، وأمروه بمعاقبة الانجريين "المتهمين" في تهديم أعمال البناء.
ظلت وزارة خارجية بريطانيا خلال هذه الأحداث تتواصل بمراسلات عن وضعية اسبانيي سبتة والانجريين، فكيف تعاملت مع تطور هذه النازلة بعد أن سعت منذ سنة 1845 للتسوية بين الاسبانيين و قبائل الريف المتخمة لثغري سبتة ومليلية ؟ من الملاحظ ان هاي سعى -كعادته- إلى اقناع المخزن بالموافقة على مطالب حاكم سبتة، إلا أن الاطماع الاسبانية لم تتوقف عند هذا الحد، بل سرعان ما لجأت إلى الضغط على المخزن بالقوة العسكرية وإرغامه على المزيد من التنازلات، ولما كانت وضعية العرش بالمغرب -بعد وفاة المولى عبد الرحمان واعتلاء ابنه سيدي محمد العرش- لا تسمح بمفاوضة الاسبان، حاصرت الجيوش الاسبانية مدينة طنجة وتطوان والعرائش، الأمر الذي جعل المغرب يدخل غمار حرب محسومة النتائج، هذه الحرب التي عرفت في الأدبيات التاريخية لمغرب القرن التاسع عشر بحرب تطوان، تكبد المغرب خلال نهايتها هزيمة كان لها ما بعدها. وفي أعقاب هذه الحرب تأسف النائب السلطاني محمد الخطيب من عدم مساندة بريطانيا للمغرب عسكريا، حيث راسل جون دراموند هاي وزارة الخارجية البريطانية قائلا إن النائب السلطاني : "مندهش للغاية وحزين اشد الحزن ليعلم أن الحكومة البريطانية، وعلى عكس سياستها التي اتبعتها زمنا طويلا، تتخلى عن المغرب في اللحظة التي يتعرض فيها للهجوم من قوة اجنبية ". (روجرز،225 ) من المعلوم ان احداث حرب تطوان انتهت بعقد معاهدة تسوية في 26 ابريل 1860م، لعبت فيها بريطانيا دورا مكشوفا في إرغام المخزن على الرضوخ للمطالب الاسبانية غير المنتهية. ان الدبلوماسية البريطانية سعت منذ 1845 على تتبع الخلاف المغربي الاسباني، وكانت دائما ما تحاول "تسوية " الخلافات بين الطرفين على حساب المخزن المغربي، كما كانت مقتنعة أن المطالب الاسبانية لا يمكن أن تنتهي إلا بحصولها على ما يضمن لها موطأ قدم ثابت في المغرب، ورغم ذلك رأت حكومة لندن في اسبانيا اشد خطر على مصالحها في المجال المتوسطي بوجه عام.
ج) موقف بريطانية من الحماية القنصلية :
لم تكن المعاهدة المغربية البريطانية لسنة 1856، تتضمن فقط امتيازات تجارية للبريطانيين، وإنما من جملة ما نصت عليه أيضا ولتسهيل ممارسة النشاط التجاري -حسب زعم حكومة بريطانيا- نجد مسألة الحماية " التي تعفي صاحبها (كما يقول روجرز) من المثول أمام القضاء المغربي وكذا من دفع الضرائب والخدمة العسكرية "، وقد حصلت بريطانيا على هذا الامتياز وفق سند قانوني نصت عليه المادة الثالثة من معاهدة 1856 التي جاء فيها انه : " اذا انيطت مهام القنصلية البريطانية بمغربي فان الحماية القنصلية تنسحب عليه وعلى اهله المقيمين معه بمنزله، كما انه يعفى من أداء الضرائب كيفما كان العنوان الذي تأخذ به والجهة التي تصرف فيها " (بنمنصور،14) ومع انتشار الحمايات الاجنبية بين صفوف المغاربة، اصبح المخزن يدق منها ناقوس الخطر ، للمشاكل التي اصبحت تطرحها علاقة المخزن بالمحميين، الأمر الذي جعله يفكر في طريق للحد من خطورتها، ونجد ان دراموند هاي يشاطر رأي السلطان سيدي محمد في هذه المسألة، ففي رسالة له مؤرخة في 28 ابريل 1863 إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول هاي: " أخشى أن تكون مسألة الحماية من المسائل التي ستؤدي إلى اضطراب كبير، وإذا لم يتم تنظيمها فإنها لن تؤدي فحسب إلى عرقلة تقدم الحضارة وزيادة التجارة في تلك البلاد، بل إنها قد تؤدي إن عاجلا أو أجلا إلى حالة من الفوضى كما قد تؤثر في استقلال السلطان" . ورغم هذا الخطاب الذي يبدو من خلاله جون دراموند هاي متعاطفا مع قضايا المخزن، فانه لم يدخر جهدا للضغط على المغرب كلما أحس بتهديد لمصالح بريطانيا ورعيتها، إلا أن حكومة لندن في شخص ممثلها جون دراموند هاي أبدت رغبة أكيدة خلال العهد الحسني لحل مشكل الحمايات غير القانونية، ويذهب خالد بن الصغير في الصفحة 327 من كتابه المعتمد، على ان المخزن نسق مع دراموند هاي في شأن بعثة محمد الزبدي للدول الأوربية لإبلاغهم تقريرا للسلطان المولى الحسن بخصوص ظاهرة الحماية. وعلى العموم، يمكن تلخيص المجهود المغربي البريطاني للحد من استفحال الظاهرة في النقط التالية:
- سفارة محمد الزبدي سنة 1876م إلى الدول الاوربية لمناقشة قضايا متعلقة بمسألة الحمايات.
- محادثات طنجة ما بين 1877-1879 باقتراح مخزني وبتدعيم بريطاني.
- انعقاد مؤتمر مدريد في 19 ماي 1880
ت) موقف بريطانيا من اليهود المغاربة.
شكل اليهود المغاربة أقلية دينية انصهرت في المجتمع المغربي، وتبوأ بعضها مكانة هامة عند السلاطين المغاربة خلال القرن 19 م، كما استفادوا بدورهم من الامتيازات التي منحها إياهم المخزن و الدول الأوربية المتعاملة معهم، وقد شكلت قضية اليهود المغاربة ورقة ضغط لم تستغلها بريطانيا فحسب، وإنما ايضا بقي الأجناس الاخرى رغبة في (حمايتهم) أو للضغط على المخزن للحصول على امتيازات جديدة. وقد أبانت حكومة بريطانيا -خلال الفترة موضوع الدراسة- عن اهتمام بالغ بالمغاربة اليهود عبر مجموعة من الممارسات نذكر من بينها ما يلي:
- الضغط على المخزن لتسوية بعض الخلافات المفتعلة بين المغاربة المسلمين واليهود. (مثل قضية حاييم المالح مع عامل الدار البيضاء).
- منح حمايات قنصلية لليهود المغاربة حرصا منهم على خدمة مصالحها. - زيارة موسى مونتفيوري عميد الجالية اليهودية في بريطانيا و أحد اكبر أثريائها إلى المغربي في 11 دجنبر 1863 م للتدارس مع السلطان المغربي وضعية اليهود المغاربة، وتمكنه من انتزاع ظهير سلطاني ينص على التسوية في الأحكام بين المغاربة المسلمين واليهود . ثالثا: بداية تراجع النفوذ البريطاني بالمغرب
1) الرغبة في تجديد معاهدة التجارة:
حاول جون دراموند هاي اقناع وزارة خارجية بلاده برغبته في مطالبة المخزن بتعديل معاهدة 1856، إلا أن طلبه هذا لم يلقى الترحيب من قبل حكومة لندن، التي رأت في أن معاهدة 1856 م أفضل وسيلة لضمان مصالحها في المغرب، وفي أعقب هذا الرّد أبدى كذلك تجار جبل طارق لهاي رغبتهم في حث المخزن على تقديم مزيد من الامتيازات التجارية، خاصة تعديل الفصل السابع من المعاهدة الذي ينص على دفع عشرة في المائة من التعريفة الجمركية على البضائع المستوردة، ورغبتهم كذلك في تحرير المتاجرة في بعض المنتوجات التي لا يسمح المخزن بتصديرها إلا بترخيص منه، مثل الحبوب والمواشي، والخشب ... وأمام هذه المطالب قام هاي سنة 1880 بزيارة لمدينة فاس، حيث استقبل المولى الحسن وعرض عليه مشروعه التجاري، إلا أن العاهل المغربي وعدّ جون دراموند هاي بأخذ مقترحاته بعين الاعتبار.
2) صمود مغربي أمام المطالب البريطانية.
لقد انتظر هاي من المخزن قرابة أحد عشر شهرا للردّ على مشروعه المتعلق بإحداث تعديلات على معاهدة التجارة، وأمام الضغط الذي مارسه هاي على النائب السلطاني محمد بركاش، قدم هذا الأخير اعتراضات المخزن على المقترحات البريطانية، كما قدم تبريرات لذلك الرفض من خلال العناصر التالية: - تخفيض الرسوم على صادرات الحبوب إلى 5 % ، أمر لا يمكن الموافقة عليه، لكون ان مستفادات المراسي ستنخفض ايضا بمقدار النصف. - لا يمكن الموافقة على إلغاء احتكار الادوات الحربية، لان استرادها يجب ان يظل في يد المخزن تفاديا للفتن في اوساط القبائل.
- لا يمكن الموافق على تصدير الدواب والمواشي والاخشاب وغيرها لحاجة الرعية اليها. - إن المخزن لا يرى ضرورة في الموافق على توحيد المكايل والموازين في المراسي. ورغم احتجاج جون دراموند هاي على موقف المخزن من مسألة تحديث معاهدة 1856 م إلا أن هذا الأخير ظل متشبثا بمعارضته، خاصة وان كل الدول الأوربية المتعاملة معه أبدت رغبتها في تعديل معاهداتها. لقد انتهت مهمة جون دراموند هاي الدبلوماسية في المغرب سنة 1886 دون تحقيقه للنتائج التي كان يرغب فيها، وقد بدت منذئذ -وامام تزايد حدة التنافس الاوربي على المغرب- تظهر بوادر تراجع مكانة حكومة بريطانيا في المغرب حيث يقول روجرز في هذا الصدد: "وقد بدا وضحا بعد وقت قصير انه بعد رحيل سير جون (دراموند هاي) لم يعد المولى الحسن راغبا في الاعتماد على نصائح البريطانيين أو معونتهم" .
خاتمة:
انطلاقا مما سبق يمكن القول، عن العلاقات المغربية البريطانية خلال القرن التاسع عشر أنها كانت محكومة بمجموعة من الخصوصيات نذكر منها ما يلي:
شكلت المعاملات التجارية ومنذ العهد السعدي أساس التقارب المغربي البريطاني.
موقع المغرب الجغرافي جعل بريطانيا تراهن عليه، للحفاظ على مصالحها التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
حسن اختيار بريطانيا لممثليها في المغرب جعلها تحظى بامتيازات كبيرة. حنكة جون درموند هاي مكنته من القيام بدور الوسيط بين المغرب والدول الأجنبية على الوجه المطلوب.
شدة المنافسة بين القوى الاوربية على المغرب كسر مكانة بريطانية عند المخزن المغربي.
لائحة المراجع المعتمدة:
خالد بن الصغير، المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (1856-1886)، منشورات كلية الآداب بالرباط، ط، 2، 1997.
ـ دانييل شروتر، تجار الصويرة: المجتمع الحضري والامبريالية في جنوب غرب المغرب (1844-1886)، ترجمة خالد بن الصغير ،منشورات كلية الآداب بالرباط، ط، 1997.
ـروجرز (ب،ج)، تاريخ العلاقات الانجليزية –المغربية حتى عام 1900، ترجمة يونان لبيب رزق، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط،1981.
ـ عبد الوهاب بن منصور، مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب من نشأتها إلى مؤتمر مدريد سنة 1880، المطبعة الملكية بالرباط، ط، 2، 1985.
ـ خالد بن الصغير، ” المغرب بين النفوذ البريطاني والالماني خلال القرن التاسع عشر“ ، ضمن كتاب: المغرب وألمانيا، منشورات كلية الآداب، بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات، رقم:17، ط، 1997.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق