الجمعة، 27 نوفمبر 2015

عبد الرزاق السعيدي،الدولة العثمانية بشمال إفريقيا: من الجهاد بإسم الدين إلى الاحتلال بإسم مصلحة الأمة.


الأهداف السياسية والاقتصادية للعثمانيين في المجال المغاربي: اتخذت الدولة العثمانية من الدين الإسلامي غطاء لتوجهاتها السياسية لدرجة يمكن معها القول إن تاريخ آل عثمان، بما فيه من حسنات وسيئات، يعد في الواقع إحدى الحلقات الهامة من تاريخ المجال الإسلامي عموما، ونظراً لأن الوطنية حتى بدايات القرن الماضي كانت مرتبطة إلى حد بعيد بالدين، فلم ينظر العرب إلى الدولة العثمانية في ذلك الوقت على أنها دولة مغتصبة أو مستعمرة لبلادهم كما يتردد ذلك لدى بعض الباحثين في الوقت الحالي، خاصة وأن العاطفة الدينية الإسلامية كانت أكثر تأثيراً في نفوس رعايا الدولة من العاطفة القومية( ). 

وبهذه الواجهة الشرعية فرض الأتراك أنفسهم على المجال برمته، واعتبرهم العرب أصحاب أياد بيضاء في رفع شأن الإسلام في أوربا ونشره في العديد من البلدان لدرجة أن الأفراح والزينات كانت تقام في العديد من العواصم الإسلامية عقب كل انتصار يحرزه العثمانيون، وكان المسلمون في شتى البلدان يعتبرون السلطان العثماني خليفة رسول الله( ) والأب الروحي للمسلمين الذي يجب عليهم طاعته، ويرون المحافظة على الدولة العثمانية ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، ونتيجة لذلك أطلق السكان العرب على القوات العثمانية المرابطة في بلادهم اسم الحامية العثمانية ولم يطلقوا عليها جيش الاحتلال العثماني، كما أن أحد المفكرين المسلمين وهو الشيخ محمد عبده وصفها بأنها الحافظة لسلطان الدين، وأن المحافظة عليها يعد ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله . وفي ظل هذا الشعور، وجهت الدولة العثمانية سياستها. فنظرالعثمانيون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون قبل كل شيء، لدرجة أن قال عنهم المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي إنهم اهتموا »بإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين،وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع« ( ).

وإلى جانب ذلك، نظرت أوربا إلى توسعاتهم على أنها فتوح إسلامية( ). وحتى تتضح الصورة، ينبغي أن نقسم أدوار الحكم العثماني إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة القوة وهي المرحلة التي شيد فيها العثمانيون دولتهم في ظل روح الجهاد الديني التي كانت غالبة عليهم والتي مكنتهم من فرض سيطرتهم على مناطق كبيرة في آسيا وأوربا وإفريقيا ( المجال المغاربي تحديدا )، ومرحلة الضعف التي تميزت بالتخبط السياسي وبالهزائم العسكرية المتلاحقة والتي استمرت حتى سقوط الخلافة( ). أما في المرحلة الأولى، فقد كان ولاء الدولة العثمانية يتجه ناحية الدين الإسلامي شكلاً ومظهراً. فاهتم السلاطين بإضفاء الألقاب الدينية بجانب أسمائهم مثل لقب حامي حمى الحرمين الشريفين، ولقب خليفة، كما حرصوا على تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صارماً. وأخضعوا رعاياهم غير المسلمين لنظام الملل.وكان الدين والدولة عندهم أمراً واحداً، وكان الطابع الديني الإسلامي بمثابة السمة الواضحة في تشريعات الدولة وفتوحاتها. ويؤكد ذلك "قانون نامــه" الذي وضعه السلطان سليمان القانوني، والذي التزم بمبادئ الشريعة الإسلامية، كما يؤكده ما كان للهيئة الإسلامية من مركز مرموق. فكان يطلق على رئيسها المفتي أو مفتي إستانبول، ثم أطلق عليه شيخ الإسلام. 

وكان المفتي يصدر فتوى تجيز الحرب التي خاضتها الدولة دفاعاً أو هجوماً وعقداً للصلح( ). ومن هنا دخل العثمانيون، باسم الإسلام، العديد من الأمصار التي لم تطأها قدم مسلم من قبل. وباسم الإسلام، فتح محمد الثاني القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857 هـ/1453م، ( ). ولم تتوقف جهود الفاتح على ذلك، بل استطاع القضاء على الإمارات المسيحية في الأناضول وتحويل آسيا الصغرى كلها إلى مناطق عثمانية . وباسم الإسلام، تردد في القوانين العامة التي أصدرها السلاطين،وفي مراسيم التنظيمات العثمانية ما يؤكد حرص الدولة على الظهور بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية والمتبني لأحكامها. وباسم الإسلام، استولى السلطان سليمان القانوني على بلجراد ورودس وبودابست ووصلت قواته إلى فيينا آخر نقطة وصل إليها العثمانيون في فتوحاتهم بأوربا. وباسم الإسلام، أوقفت الدولة العثمانية المخطط الأوربي "الصليبي" الذي كان يستهدف دخول البرتغاليين البحر الأحمر، والاستيلاء على جدة، والزحف على مكة ، ومواصلة الزحف إلى تبوك وصولاً إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وقبة الصخرة. فقامت الدولة العثمانية بوضع خطة جديدة تمثلت في اتخاذ الموانئ اليمنية ـ خصوصاً عدن ـ خط دفاع لمهاجمة المراكز البرتغالية في الهند، والدفاع عن سواحل البحر الأحمر لأهداف إقتصادية وسياسية واضحة. ولأهداف إقتصادية وسياسية قامت الدولة العثمانية بتوحيد أقطار العالم الإسلامي في إطار سياسي واحد، وتأليف جبهة إسلامية واحدة بعد أن كانت كيانات متنافرة، وتكاد تكون متباعدة بين بعضها منذ أن تلاشت الوحدة الإسلامية نتيجة ضعف الخلافة وسقوطها في عام 656 هـ على يد المغول، وأصبحت رابطة المصلحة هي الرابطة الأساسية فيما بين البلاد العربية من جهة وبينها وبين الدولة العثمانية من جهة أخرى. 

وتدخلت الدولة العثمانية لنجدة أهالي الخليج العربي الذين طلبوا منها المعاونة في عام 857 هـ/ 1550م، لمواجهة الخطر البرتغالي على بلادهم. فبعث السلطان سليمان القانوني بحملات منظمة من السويس إلى الخليج العربي لمساعدتهم، وسار على نهجه بقية السلاطين من بني عثمان حتى عام 989 هـ/ 1581م. واستطاعت هذه الحملات أن تنزل العديد من الهزائم بالبرتغاليين. وللمصلحة السياسية والإقتصادية، تقدم العثمانيون لمساعدة سكان المجال المغاربي في الصراع الدائر مع الإسبان والبرتغاليين الذين حاولوا احتلال هذه الأقاليم وتحويلها إلى مستعمرات تابعة لهم، فأعلن السلطان سليم الدعوة إلى "الجهاد" في شمال أفريقية، وأمر بتكوين كتائب المجاهدين،حتى لاتفوت فرصة الصراع حول البحر الأبيض المتوسط بين الأوربيين الأخذيين في التحول نحو الحداثة والبناء الرأسمالي ودول المجال المغاربي الأخذة في الإنكماش والتراجع. 

وبناء عليه ساندت الدولة العثمانية أهالي طرابلس في مقاومة الخطر الأوربي على بلادهم، بعد أن أرسلوا إلى السلطان سليمان القانوني يلتمسون منه التدخل لإنقاذهم لتحرير بلادهم من الإسبان الذين استولوا عليها. وقد أرسل السلطان سليمان قواته للتنافس على هذه البلاد الإسلامية حتى استقرت الأمور هناك، وباسم الإسلام، قام العثمانيون بملاحقة فرسان القديس يوحنا وطردهم من رودس، ثم من ليبيا عام 1551 م، وكذلك قاموا بكسر شوكة الإسبان في حوض البحر المتوسط الغربي. وإذا كان الجندي العثماني لا يتميز بسرعة اندماجه مع الأهالي، فإن طول مدة إقامة الحاميات العثمانية في عدد من الأقاليم البعيدة عن عاصمة الدولة، وخاصة في شمالي أفريقية كان يسمح بنوع من الاندماج والمصاهرة حسبما رأى جلال يحي. كل ذلك جعل العالم الإسلامي ينظر إلى أعمال العثمانيين على أنها مفخرة للإسلام والمسلمين، وأن زعامتهم للعالم الإسلامي أدّت إلى إعلاء شأن الشريعة الإسلامية وإعلاء شأن المسلمين. ولكن حسبما يبدو أخفت المصالح البراكماتية السياسية والاقتصادية كما هو الحال دائما في مجرى العلاقات الدولية إلى يومنا هذا، هذا عن المرحلة الأولى. أما في المرحلة الثانية وهي فترة ضعف الدولة العثمانية ومحاولاتها استغلال الوازع الديني في نفوس المسلمين لصالح سياستها، فقد استغل الأتراك الخلافة واجهة شرعية وحاولوا باسم الدين فرض هيمنتهم ومصالحهم، وفي ما يلي نضرب بعض الأمثلة على ذلك:

 1 ـ استغلال السلطان العثماني لتأثيره الديني في إضعاف صورة محمد علي أمام المسلمين أثناء حروب الشام، فبعد نجاح قوات محمد علي في اقتحام أسوار عكا، أعلن السلطان خيانة محمد علي للدولة ومروقه عن الدين، كما قام بتجريده من منصبه وإباحة دمه، مما جعل بعض علماء المسلمين يصبون لعناتهم على محمد علي ويتهمونه بالخروج على طاعة السلطان، رغم الدور الرائد لمحمد علي في منافسة القوى الاستعمارية، وخاصة الإنجليزية والرفع من قيمة مصر في المجال المتوسطي، كذلك استصدر عبد الله باشا والي عكا من العلماء ورجال الدين فتوى تتضمن أن من يمت من عساكر محمد علي مصيره النار، ومن يمت من عساكره مصيره الجنة، وقد استند علماء عكا في إصدار هذه الفتوى على ما أصدرته الدولة العثمانية من أن محمد علي وإبراهيم قد خانا الدولة، ومرقا عن دين الله.

 2 ـ استغلال الدول الأوربية، خصوصاً إنجلترا وفرنسا، ضعف الدولة العثمانية ومدى تأثير السلطان الديني في نفوس المصريين، فأوعزت إلى السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل بعد أن رفض النزول عن العرش وفقاً لمشيئة الإنجليز، ووافق السلطان على طلبهم، وبذلك انتهى حكم إسماعيل، وتولى توفيق الحكم مكانه في 26 يونيو 1879( ). 

3 ـ في مواجهة للتدخل الأجنبي في شؤون العالم الإسلامي وإزاء الموقف المتدهور الذي عانى منه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، تبنى السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها السلطان كمال، وجمال الدين الأفغاني،بهدف جمع شمل البلاد الإسلامية في مشارق الأرض وفي مغاربها، كما قرب العرب إليه وعمل على جمع كلمة رعاياه حول هدف واحد هو "الإسلام". 

4 ـ رغبة السلطان العثماني في جذب قلوب المسلمين إليه، وفي أن يظهر أمام العالم الإسلامي بمظهر الخليفة القائم برعاية مصالحهم، فدعا إلى مشروع ديني تم تغليفه بإطار سياسي وهو إنشاء سكة حديد الحجاز، وكان الهدف الديني من هذا المشروع هو إيجاد وسيلة سفر أكثر أماناً لحجاج بيت الله الحرام، بينما كان الهدف السياسي منه هو إحكام قبضة القوات العثمانية على الحجاز عن طريق إمدادها بالنجدات العسكرية للقضاء على الاضطرابات هناك في أقصر وقت. 

والواقع أن الاحتلال العثماني للوطن العربي، كان احتلالاً مقنعاً باسم الدين، وأنهم اتخذوا من الوشيجة الدينية التي كانت تربط المسلمين ستاراً لتنفيذ أغراضهم السياسية. وظلت الأمور على هذا المنوال حتى قام كمال أتاتورك باتخاذ الإجراءات التي باعدت بين الدولة والإسلام والتي كان أبرزها الفصل بين السلطنة والخلافة في أول نوفمبر 1922. بل وأعقب ذلك إلغاء منصب شيخ الإسلام، ثم إلغاء الخلافة في الثالث من مارس 1924. 


[1] - عبد المنعم إبراهيم الجميعي : " دور الين في التوجه السياسي للدولة العثمانية " جامعة القاهرة مصر، مجلة التاريخ العربي ، ع 54، 55.

- - 2 حول انتقال الخلافة إلى عثمان، انظر: محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي (1514 ـ 1914)     المطبعة الأنجلو مصرية القاهرة 1985، ص. 12



  - 3 عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 1،المطبعة الشرفية القاهرة 1322ه، ص. 21

 -4 للتفاصيل، انظر: Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, London, 1968

5- Marcel peyrouton: Histoire général du Maghreb.op cit.p p 126.

-6 عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية، ج 1،المطبعة الأنجلو مصرية ، القاهرة 1980،ص. 74.



-7 كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أمين وأخرون ، دار العلم للملايين بيروت،1979،ص. 427 ـ 428.



8-  جورج يانج: " تاريخ مصر في عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل" ترجمة علي شكري ، القاهرة، السنة 1934 ، ص. 568.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق