السبت، 30 أبريل 2016
يونس كبزيز،المجتمع الرباطي والروافد المكونة لثقافته
يتميز المغرب بخصوصية جغرافية فريدة جعلته نقطة التقاء
الحضارات الشرقية والغربية، الشمالية والجنوبية ، فشكل بذلك معبرا وممرا لهذه
الحضارات ، وهو ما أكسبه خاصية التعايش الحضاري التي ميزته ، فكان كنفا لثقافات وحضارات
، وفدت عليه من مختلف أقطار العالم القديم ، فامتزج فيها سكانها الأصليين بالمهاجرين ، الذين استقروا بالمغرب عبر هجرات
متتالية قبل و بعد الفتح الإسلامي ، فنسج على مدى قرون طويلة ، الهوية المغربية ،
من الأمازيغ والكنعانيين والفينيقيين ، العرب المسلمين و غيرهم [1]
، فكان نتاج هذا اللقاء والتمازج أن تشكلت هوية مغربية موحدة بالرغم من المتغيرات
التي يفرضها التنوع الثقافي لهذه الأجناس ، التي تمغربت وصار من الصعب عليها
العودة إلى ثقافتها الحضارية كما كانت [2]
.
بدورها تميزت مدينة الرباط بموقع جغرافي ، جذب إليها
العنصر البشري منذ القديم ، حيث امتزجت فيها فئات أمازيغية وعربية ، إسلامية ويهودية ، بعضها عريق في
المنطقة ، و البعض الأخر هاجر إليها من الشرق ، و البعض و فد عليها من أقاليم
مغربية مختلفة ، قبل أن ينزل بها الأندلسيين[3]
، ويغنوا تراثها الحضاري والثقافي ، و كان لكل عنصر من هذه العناصر المكونة
للمجتمع الرباطي في مختلف مراحله التاريخية ، دورها وإسهامها في تكوين وتعزيز
الهوية والشخصية الرباطية ، وكان لكل واحدة من هذه العناصر أدوار حضارية وثقافية واقتصادية
، يشهد لهم بها معظم المؤرخين والكتاب[4]
الذين تحدثوا في أبحاثهم عن المجتمع الرباطي .
يمكن تقسيم المجتمع الرباطي إلى قسمين بارزين ، حتى نبرز
الخاصية الاجتماعية للعنصر البشري الذي يكون المجتمع الرباطي ،و القسمين هما قسم خاص بالعنصر الإسلامي
الذي يتكون من أجناس مختلفة ، و قسم العنصر اليهودي الذين كان له حضور في
المجتمع الرباطي منذ القديم .
يدخل ضمن
هذا العنصر البشري العديد من الأجناس المختلفة والتي أسلمت مع الفتح الإسلامي ،
رغم الميزة التي طبعت ساكنة المغرب عامة و
من ضمنها سكان منطقة الرباط الأصليين ، في
الإصرار على الإنفراد بخصوصيتهم الثقافية ، إلا أن شروط الانصهار الحضاري وميزة
التعايش لدى ساكنة المغرب ، سمح للإسلام باحتلال الصدارة في تشكيل الثقافة
المغربية ، ـ على عكس المسيحية التي اعتنقوها في العهد الروماني ، والذين تمردوا
فيها على الكنيسة الرسمية بروما ، و انفردوا بمسيحيتهم التي طبعوها بلون وطني ـ ،
و كان السبب في منحهم للإسلام ذلك الاستثناء ، لأنهم وجدوا في لغة القرآن وشريعته
ما استهوى نفوسهم [5] ، ورغم
ذلك كان تعربهم لا يخضع للعروبة العرقية بالقدر الذي كان انتماء للعروبة اللسانية [6]
.
يتطرق
الفقيه عبد الحفيظ الفاسي في كتابه
"خطوات و خطرات " للعنصر البشري المكون للمجتمع الرباطي فوضع لها تقسيما
اثنيا صنفه إلى أربع مجموعات و هي :
القسم
الأول : يسميهم بالشاليين [7]
و هم أولائك الذين نزحوا من مدينة شالة الأثرية بمجرد بناء رباط الفتح في العهد
الموحدي ، و يعتقد أنهم السكان الأصلين للمدينة، الذين تواجدوا بمنطقة الرباط منذ
ما قبل العهد الفينيقي و الروماني و
انتقلوا إلى شالة الأثرية عند بناءها من طرف الفينيقيين ، خاصة وأن الاثريين
يرجعون الاستيطان البشري بالمنطقة إلى ما قبل 160.000 سنة قبل الميلاد .
القسم
الثاني : فينعتهم الفاسي بالأخلاط النازحين
إلى الرباط ، وهم من العرب والأمازيغ ، و نلاحظ من هذا التقسيم أن عبد الحفيظ
الفاسي جعل من العرب و الأمازيغ قسما ثانيا نزح إلى الرباط ، و هنا نتساءل، هل
الشاليين لم يكونوا أمازيغ ؟!!
تزامنت هجرة العرب إلى منطقة الرباط ، مع هجرات القبائل
الأمازيغية ، في القرون الهجرية الأولى ، و من أشهرها عرب الحجاز ، الذين وفدوا
على المغرب مع الفتح الإسلامي ، و عرب بني معقل خلال القرن 6 هـ / 12م ، الذي
تنحدر منهم قبائل الوداية التي استوطنت الرباط في القرن 19م / 13هـ[8]
، و من أشهر عائلاتهم نجد عائلة الإدريسي ، و بالمقدم ، وعائلة حسان [9].
أما العنصر
الأمازيغي ، فجل الدراسات[10]
التي تتحدث عن المغرب القديم و سكانه الأصليين ، فيشيرون إلى أقدمية هذا العنصر
باعتباره أقدم من استوطن المغرب ، وتنقلوا في ربوعه بحثا عن مكان يوفر لهم
حاجياتهم الغذائية ، والأمنية ، فكانت منطقة الرباط ، من المناطق التي استهواهم
جوها و موقعها ، فاستقرت بها القبائل الأمازيغية طيلة القرون الهجرية الأولى وخلال
عهد الدولة المغربية ( الأدارسة ، المرابطون ،و الموحدين، إلخ) ، فعزز بذلك الجنس
الأوربي ، والصنهاجي ،المصمودي و الزناتي ، التشكيلة البشرية والعرقية للمجتمع
الرباطي .
و يصف عبد
الحفيظ الفاسي القسم الثالث ، ببيوتات أهل الأندلس ، المتكونين من المورسكيين
المطرودين من بلاد الأندلس ، حيث استقطبت مدينة الرباط ، أفواجا من المهاجرين
الأندلسيين ، عبر هجرات متتالية ، انطلاقا من القرن 13 الميلادي / 7 الهجري، حيث
منحهم الخليفة الموحدي ظهير يسمح لهم بالاستقرار برباط الفتح[11] [ملحق رقم 8]، وقد ظل التبادل السكاني بين شمال
وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط سمة بارزة ، ودائمة عبر تاريخ المنطقة[12]
ويمكن أن نعتبر هجرات المورسكيين إلى المغرب هجرة معاكسة ، فقد سجلت حركة عبور
مكثفة للسكان المغاربة و العرب الفاتحين
نحو الضفة الشمالية ، إما للجهاد أو فرارا من الفاتحين ، وقد كان لهذا
العنصر الأندلسي دور مهم في طبع الثقافة والهوية المجتمعية لمدينة الرباط بطابع
أندلسي ، أضفى عليها السمة الحضارية و المدنية.
يختم
الفقيه الفاسي تصنيفه لساكنة الرباط بالعنصر الفاسي ، فسماهم ببيوتات أهل فاس ،
الذين انتقلوا إلى الرباط خلال القرن 18م/12هـ للتجارة و غيرها ، إضافة إلى العنصر المراكشي ،
و مجموعات من المهاجرين السود الأحرار منهم و العبيد ، كما قدمت أسر من أقاليم سوس
و الصحراء ، و الشاوية ودكالة [13]
كما تدل على ذلك أسماء بعض العائلات والولاة والعمال ، الذين تعاقبوا على مدينة
الرباط ، خاصة في القرنين 18ـ19م/12ـ13 هـ، نذكر منهم على سبيل المثال ، عائلة آل
السويسي المنحدرة من منطقة سوس في الجنوب المغربي ، وعائلة الحاج أعشاش التطواني
ذي الأصل التطواني من الشمال المغربي والذي كان واليا على تامسنا والرباط سنة 1813م/
1228هـ [14].[
أنظر ملحق رقم 11].
إن طابع
التسامح والتعايش الذي يتميز به أهل المغرب عامة ، وأهل الرباط خاصة ، أدى إلى
تمازج ثقافي واجتماعي بين هذه الفئات الوافدة على المنطقة ، فميز مدينة الرباط
بطابع اجتماعي وثقافي متفرد ، و هو تمازج سمح بتكييف "نفسية الرباطيين و
مزاجهم ، مما أفضى إلى طبيعة يغلب عليها الجد و الوقار ، ونزاهة و استقامة ، و
أنفة و إباء نفس ، لكن مع سلامة صدر و تواضع جم ، يصل إلى حد نكران الذات و
التفاني في خدمة الغير والصدق في معاشرته و الأمانة في خدمته و الوفاء الخالص له[15]
هي صفات يؤكد عليها عبدالحفيظ الفاسي في
كتابه خطوات و خطرات ،لما رآه في حسن و كرم مضيفه [16]
.
كان العنصر الأندلسي أكثر الفئات المؤثرة في الطابع
الثقافي و الاجتماعي لمدينة الرباط ، حيث ساهموا في تطعيم المجتمع الرباطي بالسمة
الحضارية و المدنية ، بفضل ما حملوه معهم إلى المدينة من علم و فن و حضارة ، وفي
ذلك يقول مؤرخ الرباط محمد بوجندار " أهل الرباط على العموم هم أهل مدنية ،
لا يعادلهم فيها إلا أهل فاس و تطوان ، نظرا لأصلهم الأندلسي الأصيل في العراقة و
الحضرية التي نشاهد من آثارها في الرباط والرباطيين ، ما هو ظاهر ظهور الشمس ، في
معارفهم و آدابهم و صنائعهم[17]".
من بين الفئات الوافدة على المغرب منذ القديم ، نجد العنصر
اليهودي ، الذي استوطن المغرب في فترة مبكرة ، حيث يذهب بعض الباحثين [18]
خاصة اليهود منهم ، إلى أن العنصر اليهودي يرجع تواجده بالمغرب إلى الفترة
الفينيقية و الرومانية ، مستدلين على ذلك ، بالنقوش و الكتابات و الأثريات التي
وجدت بالمغرب ، كما هو الشأن بمدينة وليلي التي عثر فيها على شمعدان ذو السبعة
عروش ، و بقايا شاهد قبر يحمل كتابة عبرية [19] و يرجعهم البعض الآخر[20]
إلى الهجرات الأولى ، الآتية من فلسطين ، قبل الأسر البابلي الذي تعرض له اليهود ،
بعد أن قام ملك بابل نبوخد ناصر ، بمهاجمة أورشليم ( القدس) في عام 587 ق م [21]
و الهجرة الثانية كانت مع الفينيقيين ، حيث و جدوا في بلاد المغرب الفينيقي المأوى
و القبول ، والظروف الملائمة للاستيطان ، لما بين الفريقين من صلات الجنس و اللغة
و التقاليد ، وهو ما سمح لليهود بالتوغل داخل بلاد البربر ، و تمرس اليهود على
أعمال التجارة نتيجة لاحتكاكهم
بالفينيقيين ، و تمازجوا معهم لأنهم أصحاب عقيدة لا وطن ، أما الهجرة
الثالثة إلى مغرب كانت في العهد الروماني خلال القرن الأول ميلادي ، نتيجة
للاضطهاد الروماني لهم[22] ، و بما أن اليهود هم أهل تجارة فقد اختارت فئة
منهم الاستقرار في بعض المراكز الساحلية ، ذات النشاط التجاري [23]
، و بخصوص مدينة الرباط ، فتذهب الروايات إلى أنهم وفدوا عليها منذ العصور الوسطى
، فيقول في هذا ابن خلدون "أن اليهود قطنوا بلاد تامسنا و تادلا و ظلوا
يسكنون في المدينتين و بعض مناطق هذا الإقليم حتى عصر الموحدين [24]
، كما حلت طائفة منهم مع الهجرات الأندلسية في القرن 17م/11هـ [25].
رغم أقدمية هذا العنصر البشري في منطقة الرباط ، إلا انه
لم يستطع أن يؤثر بشكل كبير في المجتمع الرباطي ، بسبب العزلة الثقافية التي
فرضوها على أنفسهم في البداية ، وفرضت عليهم في النهاية ، مع المولى سليمان ، الذي
عزلهم في مجتمعهم الصغير داخل الملاحات ، و قد يعتقد البعض ، أن في هذا الأمر ميز
عنصري ، و اضطهاد لفئات طالما كانت نشيطة و مؤثرة في الحياة السياسة و الاقتصادية
للمغرب ، كما قد يستغرب البعض من أمر كهذا صادر من سلطان دائما ما نعت بالفقيه
الذي يصلح أن يحكم بين الملائكة لا بين البشر، لورعه و تقواه ، خاصة و أن لا وجود
لهذه العنصرية في الأديان السماوية ، لكن المتمعن في الأمر سيجد أن لا علاقة تربطه
بالميز العرقي أو الديني ، و إنما هو راجع إلى أسباب مادية ، و اليهود أنفسهم ،
تأكد لهم بالملموس ، أن هذا الأمر هو في صالحهم ،إذ وفر لهم فضاء يمارسون فيه
حريتهم الدينية وممارساتهم الاجتماعية ، بالإضافة إلى الأمن والأمان الذي توفره
لهم أسوار الملاح[26] ، لكن
رغم هذه العزلة التي أحاط بها اليهود أنفسهم لم تمنعهم من المشاركة في الحياة
الاجتماعية للوسط الذي يعيشون فيه ، فقد وجدنا في تاريخ المغرب يهودا مغاربة
تقلدوا مناصب سامية في الدولة ، حيث كانت رعاية السلاطين تشملهم بصفتهم رعايا و
مواطنين مغاربة ، لهم نفس الحقوق التي لدى غيرهم من المواطنين ، وهو ما نلمسه من
بيان الملك محمد الخامس ، على إثر القوانين التي أصدرتها حكومة فيشي في أكتوبر
1940م/1359هـ ، حيث قال فيه " إن يهود المغرب هم رعيتي و من واجبي حمايتهم ضد
أي اعتداء "[27] . لقد عرفت
وضعية اليهود تغييرات عميقة مع في عهد الحماية ، حيث تقرر حذف الجزية و غيرها من
الضرائب الاستثنائية ، و سقطت إلزامية كل الممارسات التمييزية المتعلقة بالمسكن و
الملبس [28]
، و تجاوز اليهود أسوار ملاحهم ، فهجرت العائلات الميسورة بفاس و الرباط و الدار
البيضاء أحياء الملاح ، لتستقر في الأحياء الجديدة التي شيدها الفرنسيون [29]
.
خلاصة :
تميز المجتمع المغربي عامة و الرباطي خاصة ، بتنوع في
التشكيلة السكانية ، التي تكونت على مدى تاريخه العريق و التي أغنت موروثه الثقافي
و الاجتماعي ، و ساهمت في تمييز المجتمع الرباطي عن غيره ، بخصوصيات ثقافية ،لا
نجدها إلا فيه ، مع التأكيد على أن تأثير هذه التشكيلات السكانية ،لم يكن بنفس
الحدة عند معظمهم ، حيث يغلب على المجتمع الرباطي الطابع الأندلسي خاصة ، و التي
يقول عبد الحفيظ الفاسي عن العناصر
الأندلسية "بأنها زينة البلاد و أعيانها[30]
.
[1] الكتاني (محمد)،" الهوية الثقافية للمغرب
بين ثوابت الماضي و متغيرات الحاضر"، ندوة مستقبل الهوية المغربية أمام
التحديات المعاصرة " ص: 234 و ما بعدها
[2] حقي محمد حقي ( محمد )، البربر في الأندلس دراسة لتاريخ مجموعة إثنية
من الفتح إلى سقوط الخلافة الأموية 92 هـ/711م – 422 هـ / 1031 م ص : 283
[7] احميدة ( محمد ) ، "صورة مدينة الرباط من
خلال رحلة خطوات و خطرات لعبد الحفيظ الفاسي "مجلة مجرة ص : 70
[10]
كمحمد بوكبوط (الممالك الأمازيغية في مواجهة التحديات ) ، عبد الكريم غلاب (قراءة
جديدة في تاريخ المغرب العربي ) ، الحسين السايح ( الحضارة المغربية )، مصطفى أعشى
( جذور مظاهر الحضارة الأمازيغية خلال عصور ما قبل التاريخ )
[11] ابن مرابط ( ابى العلاء محمد المرادي) ،
زواهر الفكر و جواهر الفقر دراسة
وتحقيق أحمد المصباحي ، ، ج1، ص : 228 ،231
[26] أصراف
رابير ، محمد الخامس و اليهود المغاربة
، ترجمة علي الصقلي و
محمد كلزيم ، مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الأولى ، الدار البيضاء ،1997 ، ص : 86
[27] العلوي (زين
العابدين) ، المغرب من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني ،دار ابي
رقراق للطباعة و النشر، د.ط ، الرباط، 2009 ، ج 3، ص : 214
عبد الله النملي،آسفي..المدينة الضّاربة في أعماق التاريخ
توطئة:
الحب
ليس محصورا دائما بين كائنين بيولوجيين، بل هناك أيضا حب للأمكنة والمدائن. والكتابة عن المدن متعة آسرة، لا
يعادلها إلا قصائد العشق أو أغاني الفرح. وإذا
كانت هناك مدنا لا تَستهوي زوارها ولا تُحرك لهم في النفس ساكنا، فإن مدنا أخرى
تستحيل الحياة من دونها بلا معنى. فهناك مدن تحبها، وأخرى تنفر منها، وثالثة تلبسك
بمجرد أن تطأها حتى تنقلب حياتك رأسا على عقب وكأنما خُلقت حينها. هذه المدن هي
التي تستحق أن تتوقف عندها بالتفكير والحنين والعشق. آسفي، حاضرة المحيط، كما أسماها بن خلدون، واحدة من تلك
المدن الرائعة التي تسكن التاريخ البشري، بل هي حكاية أسطورية تتردد تفاصيلها
الساحرة في زوايا الحضارة الإنسانية. آسفي، تاريخ عريق، وصفحة رائعة من الحضارات والشعوب
والديانات التي تعاقبت على هذه الأرض التي تعشق التنوع وتحتضن التعدد. هي بلا شك،
أيقونة التسامح وعنوان الانفتاح، بكل ما تحتويه من حضارة ضاربة في أعماق التاريخ
البشري.
فكل
من يزور آسفي يَعز عليه فراقها، وكل من عرفها تعلق بها، إنها المدينة الباذخة
في الفرح والقَرح، تُعطي وتجزل في العطاء، ولا تنتظر مقابلا لقاء ذلك.
آسفي مدينة فاتنة لا يخضع لجمالها كل من رآها فقط، بل يُتَيّم بها حتى من سمع عنها
ووصله صيت أخبارها. هي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة، منبع الطين و
الخزف الذي اشتهرت به المدينة. لا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه آسفي، فهي
قديمة قدم التاريخ نفسه، وقد حيكت حول تأسيسها واشتقاق اسمها روايات متضاربة. ولعل
الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود شرق المدينة سنة 1962 ، والمتكونة من بقايا
عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف
سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد
على تاريخها العريق، وورد اسمها ضمن أمهات المعاجم، وذكرها ابن بطوطة في مذكراته
الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وزارها وزير غرناطة لسان الدين بن
الخطيب، وأعجب بها "الدون إمانويل" ملك البرتغال، فشيّد بها كاتدرائية بهندسة فريدة،
ووقّع ثلاثة من أبنائها على وثيقة الاستقلال، تقف أسوارها شاهدة على ماض مجيد، حتى
وصل ساحلها القائد العربي عقبة بن نافع، ووصفت بأقدس مناطق المغرب، تُنبت أرضها
الصلحاء كما تُنبت العشب، وأنشأ بها الشيخ أبي محمد صالح مؤسسة الركب الحجازي، حتى
باتت مركز إشعاع علمي. ومنها أطلق سيدي محمد بن سليمان الجزولي الإشعاع لطريقته
الصوفية.
ونظرا لأهمية آسفي، فقد
شكلت وجهة مفضلة للعديد من الأسر الأندلسية والعربية حتى وصفت بأنها مدينة
دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل، ويفد عليها المبعوثون البريطانيون قبل التوجه
إلى مراكش، وترسو بها السفن الأوربية التي ترغب في إبرام الاتفاقيات الدولية
بالعاصمة مراكش. وازداد اهتمام السلاطين بآسفي فأقاموا بها دارا لضرب السكة ما بين
1716 و 1830م. وقديما جعلها المرابطون مرسى الإمبراطورية المرابطية، ومركزا لتجميع
قوافل الذهب الإفريقي، والبرتغاليون جعلوها ميناء رئيسيا لتصدير الحبوب والسكر
والصوف.
لآسفي ألف حكاية مع البحر..
ولمدينة آسفي الجوهرة
الراقدة على شواطئ المحيط الأطلسي، وَلع لا يُضاهى بالشأن البحري قديمه وحديثه، خَبَرت
آسفي البحر وأهواله، وفنونه وعلومه، كما كان السفر عبر البحر منذ القديم، مهنة للعديد من
أبناء آسفي الذين تعلموا أصوله، وورثوها لأبنائهم، كما أفلحت المدينة في تَحدّي
أمواج البحار، لتتحول بذلك إلى أول ميناء للصيد البحري بالمغرب، حيث اشتهر بها
الربابنة والرياس الكبار، حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين، مما جعلها تُغْري
بلذائذ أسماكها جيراننا فجاؤوها محتلين. و لآسفي ألف حكاية مع البحر،
حفظ منها الزمان ما تيسر والكثير منها ضاع واندثر. ولمرسى آسفي أدوار في الملاحة البحرية القديمة، حيث
تُعتبر من أقدم موانئ المغرب، و من بين ثمانية موانئ فقط فُتحت للتعامل التجاري مع
الخارج، حيث تزعمت حركة الاتصال بالعالم الخارجي منذ القديم. ذلك أن سكان آسفي لم
يكونوا يعيشون في معزل عن حضارة الشعوب المجاورة، وخاصة شعوب أوربا ومنطقة البحر
المتوسط، بل كانت لهم صلات وعلاقات متعددة مع هذه الشعوب. و ما زلنا حتى الآن
نلاحظ تشابها في عدد كبير من عاداتهم وكلمات لغاتهم، ونجد هذه الظاهرة كذلك في
المفردات الخاصة بالبحر.
في كتابه "بصمات
المحيط الأطلسي في تاريخ وعمران حاضرة آسفي" يقول الباحث والمؤرخ ابراهيم
كريدية عن آسفي (منذ اليوم الأول من تأسيسها، قبل زمن بعيد، موغل في القدم لا يعلم
قدره إلا الله، اختارت أن تتموضع وتستقر وتتوسع عبر ما تعاقب عليها من عصور و دول،
على حرف خليج بحري دائري وواسع، يطل على هذا المحيط الصاخب (..) في بعض الروايات
التاريخية يقترن اسم مدينة آسفي بالبحر، وفي ذلك تأكيد منها، لما بين هذه الحاضرة
وظهيرها البحري، من وثيق الصلة في كل العصور (..) وقد التصق ذكر آسفي كموقع بحري
وكمرسى بالاكتشافات والمغامرات البحرية، بما فيها القديمة والغابرة والحديثة،
ونذكر منها ثلاث رحلات متباعدة في الزمان،
وهي رحلة حانون، التي كانت آسفي واحدة من محطاتها الرئيسية، ثم رحلة المُغَررين
وكانت آسفي خاتمتها الحزينة، وأخيرا رحلة رع، وكانت آسفي نقطة انطلاق نجاحه) . ويضيف
الباحث كريدية بأن (مدينة آسفي، تدين في وجودها و استمراريتها منذ غابر الأزمان و
حتى اليوم، وفيما عرفته وتعرفه حتى اليوم من ازدهار تجاري وإشعاع اقتصادي وتوسع
عمراني، إلى ميناءها و ما يشهده قديما وحديثا و راهنا، من حركات وضع و وسق تجاريين).
لقد لعب ميناء آسفي دورا
كبيرا في تاريخ المغرب، على اعتبار أنه كان نقطة عبور أساسية للعديد من الشعوب
الباحثة عن موطئ قدم بالقارة الإفريقية، كما كان مَعْبَرا أساسيا للمغامرين
والباحثين عن المواد الأولية والأسواق التجارية، مما جعل سلاطين المغرب يهتمون به.
ويرى الأستاذ محمد بالوز في كتابه " صفحات من تاريخ مدينة آسفي " أن (موقع آسفي كان معروفا عند الفينيقيين، لأنه
يضم أقدم ميناء افريقي على الساحل الأطلنتيكي، نظرا لوجوده في موقع يمكن لأي مركب
قادم من البحر المتوسط، أن يكون ذا حظ وافر في الاندفاع تجاه خط عرض المحيط الأطلسي. فمباشرة خارج آسفي يمر
تيار الكناري الذي يهب من الشمال الشرقي في اتجاه الجنوب الغربي، حاملا كل ما يطفو
على الماء ويدفع به تجاه القارة الأمريكية ) .
وعندما
تخلصت آسفي من السيطرة البرغواطية على يد الدولة المرابطية، أصبحت لها شهرة عالمية، لكونها شغلت لفترات
معينة مرسى العاصمة السياسية مراكش، حيث كان لابد للسفراء والقناصل الذين يصلون
إلى مراكش من النزول بآسفي، ثم الانطلاق منه إلى مراكش. وفي عهد الدولة الموحدية،
عرفت آسفي نهضة عمرانية، تمثلت في كونها أصبحت مرفأ تجاريا وعسكريا مهما لاستقبال
السفن القادمة من الأندلس. و خلال القرن الرابع عشر الميلادي عرفت مرسى آسفي
ازدهارا تجاريا في العصر المريني، فأصبحت قبلة تجار الأندلس والتجار المسيحيين،
ومنهم تجار ايطاليون من جنوة وغيرها، وتحولت آسفي بفضل حركتها التجارية إلى مرجع
رئيسي للتجار المسيحيين بالنسبة للمكاييل وعمليات صرف المسكوكات الذهبية و الفضية،
وغَذَت موردا رئيسا لتغذية بيت مال الدولة من مداخيل ضرائب التجارة، من أعشار ومكوس.
وخلال القرنين 15 و 16 أصبحت مدينة آسفي، من أكثر الموانئ المغربية استفادة من
تجارة البرتغال، إذ أصبح بإمكان المدينة أن تُزود كل تجارة سواحل افريقيا بما
تحتاجه من سلع، وتروج كل ما يُجلب إليها عن طريق البرتغال من الهند.
وعلى
الساحل الأطلنتيكي كان ميناء آسفي من الموانئ التي يستخدمها الإنجليز للتبادل
التجاري مع المغرب، حتى صار ميناء آسفي متخصصا في استيراد المدافع والبنادق
والبارود والرصاص والقنابل. ومن صادرات ميناء آسفي إلى انجلترا، السكر والذهب
والجلود والثمر والشمع واللوز وريش النعام. كما تَعَرّف عليها التجار الإنجليز قديما إلى أن صاروا اختصاصيين في
شؤونها، حيث ظهر التأثير العمراني والتجاري بالمدينة، خصوصا عندما أقام الإنجليز
شرق قصر البحر مركزا تجاريا انجليزيا مبنيا بالحجارة والخشب والقرميط على الطريقة
الإنجليزية في ساحة مولاي يوسف حاليا، هذه البناية الأثرية تم تدميرها في بداية
الثمانينات من القرن العشرين. و بعد أن تحررت آسفي من سيطرة البرتغال وآلت شواطئها
إلى الشرفاء السعديين، أصبح ميناء آسفي ميناء رئيسيا للصادرات والواردات، كما كانت
السفن الأوربية تحمل إلى آسفي الثياب
والملف والذخائر، وحتى الكمانات لعازفي
الجوق السعدي، وكتاب التوراة لليهود والساعات والعطور. وقبل التوجه إلى العاصمة
السياسية مراكش، كان المبعوثون البريطانيون كباقي السفراء الأجانب ينزلون بآسفي.
وهكذا أصبحت آسفي ميناء دبلوماسيا للدولة السعدية.
وهنا لابد من الإشارة إلى
المحطة البارزة التي ظهرت فيها دبلوماسية السكر على حد تعبير المؤرخين الأوربيين،
حيث كان السكر القادم من شيشاوة في مقدمة المواد التي تُسوقها المدينة لإنجلترا،
لأن المملكة لم تكن تقبل في مطبخها، حسب ما يقوله "هنري روبيرتس"، إلا
السكر المغربي، علاوة عن أن آسفي كانت مُنطلقا لملح البارود المغربي، الذي لم يكن
يوازيه أي ملح في العالم، والذي كان الدفاع الحربي الإنجليزي يعتمده، إضافة إلى
كون المدينة كانت تزود أوربا بأجود الصقور المغربية، التي ساهمت في تطوير هواية
القنص بالصقر، دون أن ننسى تصدير الشمع، حيث كان المستهلكون يُقْبلون عليه لقوة
نوره وصفائه، وللرائحة التي يستنشقونها عند احتراقه، وكأنه مُزج بمادة العطر.
وفي
سنة 1577 م قام الرحالة الكبير "فرانسيس درييك" Francis Drake بأول جولة له حول العالم، فتوقف بآسفي بأسطول
متكون من خمس سفن، وأزيد من مئة وخمسين شخصا. وفي منتصف القرن 17 ، أصبحت آسفي أهم الموانئ المغربية التي تضم بيت مال
المسلمين لتقديم أجور العساكر، كما كان التجار يحلون بها عند قدومهم إلى المغرب. و
قد ارتبط بهذه المرسى نشاط جمركي كبير اشتهر ب " الديوانة"، ويسميها أحد
الأوربيين " دار النصارى"، وهي بحسب وصفه، تتخذ شكل فندق كبير، وكل دولة
لها علاقات تجارية مع ميناء آسفي، تمتلك به محلا، فيه يسكن ويعيش ممثلوها من
الفرنسيين والإنجليز والهولنديين و غيرهم، وكذا المغامرين النشطاء في ميدان
التجارة. وحتى عشية الحماية الفرنسية كانت السفن تقصد مرسى آسفي، من موانئ كبيرة
معروفة بأوربا و العالم، بقوة حركتها التجارية واتساع علاقاتها ومعاملاتها
التجارية، وبحكم نشاطها التجاري الواسع مع الخارج، فإنها كانت مستقرا لعدد من
الشركات الملاحية.
آسفي
تنبت الصلحاء كما تنبت الربيع
منذ
أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام، اعتبرت آسفي ضمن المدن المقدسة المعروفة في
العالم القديم، فبشمال المدينة، توقف الرحالة المغامر "حانون القرطاجي"،
في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وبنى معبدا ضخما ل"بوصيدون" سيد البحر والأنهار
والعواصف، وترك لنا نصا منقوشا على لوحة من البرونز يروي فيه رحلته بالتفصيل، ولم
يصلنا منها إلا ترجمتها اليونانية التي قام بها شيخ المؤرخين هيردوس. هذا التقرير
يشير إلى منطقة آسفي في الفقرة الثالثة ( ثم اتجهنا إلى الغرب وأدركنا مكانا يعرف
بصوليوس كاب صوليس (..) بعدما أقمنا هناك
معبدا للإله بوصيدون، سافرنا في البحر مدة نصف يوم فوصلنا إلى بحيرة قريبة من
البحر يغطيها قصب كثير ومرتفع ترعى فيه الفيلة وعدد كبير من الحيوانات الأخرى..).
ولعل
أهم حَدث عرفته المدينة، هو دخول الإسلام لآسفي على يد الصحابي القائد عقبة بن
نافع الفهري عام 62 هجرية / 681 ميلادية، حيث وقف على شاطئ بحرها المحيط ودعا
بدعائه الشهير (اللهم رب محمد، لولا أني لا أعلم وراء هذا البحر يابسة لاقتحمت هذا
الهول المائج لأنشر اسم مجدك العظيم في أقصى حدود الدنيا (..) اللهم إني لم أخرج
بطرا ولا شبرا وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تعبد
ولا يشرك بك شيئا". وقد ترك عقبة بن نافع صاحبه شاكر لينشر الإسلام بالمنطقة،
وتحول مقامه إلى رباط يعمره الصالحون، حتى قيل أنه أول وأقدم مسجد بالمغرب. وقد
ترك لنا المؤرخ أحمد بن الخطيب القسنطيني (بن قنفذ) وصفا لهذا الرباط الذي يعقد
فيه الزهاد والعباد من مختلف نواحي المغرب مؤتمرهم السنوي فقال " ولقد حضرت
مع جملة من هذه الطوائف مواطن عدة، منها زمان اجتماع فقراء المغرب الأقصى على ساحل
البحر المحيط، جوف إقليم دكالة بين بلد آسفي وبلد تيطنفطر، وكان الاجتماع في شهر
ربيع الأولى المبارك الأسعد سنة تسع وستين وسبعمائة (1367 م) وحضر من لا يحصى عدد
من الفضلاء، ولقيت هناك من أخبارهم وعلمائهم وصلحائهم ما شردت به عيني بسبب كثرتهم).
ويصف بن قنقذ آسفي قائلا (إن أرضها تُنبت الصلحاء كما تنبت الربيع".
قالوا
عن آسفي..
خلال
رحلته إلى المغرب في القرن الثامن للهجرة الرابع عشر الميلادي، قال الأديب والوزير
لسان الدين بن الخطيب عن آسفي " لطف حفي وجناب خفي ووعد وفي ودين ظاهره مالكي
وباطنه حنفي، الدماثة والجمال والجلال والصبر والاحتمال والزهد والمال، قليلة
الأحزان صابرة على الاختزان وافية المكيال والميزان، رافعة اللواء بصحة الهواء،
بلد موصوف برفيع ثياب الصوف، وبه تربة الشيخ أبي محمد صالح، وهو خاتمة المراحل
لمسورات ذلك الساحل). ويصف القاضي الأندلسي مطرف بن غميرة المخزومي آسفي بكونها
" أخصب الأرجاء وأقبلها للغرباء ". وقال عنها ناظر أحباسها الفقيه المؤرخ أحمد الصبيحي
السلاوي " أهل آسفي أهل دين متين، ودماثة أخلاق يألفون ".
وزار
آسفي الطبيب الإنجليزي "ارثر ليرد" سنة 1872 م، أواخر عهد السلطان محمد
بن عبد الرحمان، وقال فيها (مدينة عريقة في القدم، وهي عاصمة عبدة، ويحيط بها سور
عال، كما تقع على هضبتين، ولا تزال بها آثار قصور ومعاقل البرتغال، ويبلغ عدد
سكانها 8000 نسمة (..) من بينهم عدد مهم من اليهود)، وكتب عن مرسى آسفي قائلا (تقع
آسفي على ساحل بحر شديد الهيجان، ومن المسلي مشاهدة المهارة والجرأة التي يحوط بها
البحارة في قواربهم المحملة بالحبوب الأمواج الخطيرة إلى البواخر التي تنتظر بعيدا
في عرض البحر، وتوجد بالقرب من الساحل صخرة تحيط بها المياه بينما يكون المد
عاليا، يقف عليها رجل مغربي يراقب سير الأمواج حتى إذا حل الوقت الذي يصبح فيه من
الممكن أن تعبر المركب أعطاها إشارة بذلك)، وعن جمال حدائق آسفي ومظاهرها الطبيعية
الخلابة نورد قوله ( إن خصوبة وجمال الحدائق التي يمتلكها الأوربيون في مدينة
آسفي، وعلى رأسها حديقة مستر مردوخ، لأقوى دليل على مدى ما يمكن أن يتحقق من نجاح
زراعي في هذه البلاد، ففي كل مكان يوجد فيه ماء تلبس الأرض أرديتها الخضراء..).
أما وصفه لقصر السلطان بآسفي فينم عن حنين إلى
هذا القصر الذي كانت تعيش فيه سيدة انجليزية من أصل ايرلندي قدمت إلى المغرب في
عهد محمد بن عبد الله وكانت جميلة المحيا، وأصبحت مغربية واعتنقت الإسلام ( بشرق
قصر السلطان على المدينة وبه قاعات ذات سقوف عالية مزخرفة بسخاء وقد بني أهم جزء
فيه بالحجر، وتوجد فوق سطحه مدافع بريطانية الصنع عديمة الجدوى (..) ويوجد بالقصر
جناح به مجموعة من الغرف كانت تقيم فيه في الماضي سلطانة من السلالة الإنجليزية..)،
وعن اليهود القاطنين بآسفي والذين لا يسكنون ملاحا خاصا بهم قال الكاتب ( لما كانت
آسفي إحدى المدن العتيقة بالمغرب فإن الناس ( اليهود) يحجون إليها، ذلك أنها تشتمل
على كثير من الدور المقدسة يشرف عليها
رهبان كسولون يعيشون على إحسان أتباعهم، ومن بينها دار تتمتع باحترام خاص
تدعى دار الإخوة السبعة اولاد بن زميرو، وقد ماتوا في يوم واحد ودفنوا بعضهم إلى
جانب بعض، ويزور اليهود قبورهم المقدسة..).
أما
الكاتبة "فرنسيس مكنب" التي زارت آسفي في مطلع 1901 م، فقد قالت في آسفي
قولة يمكن الاعتزاز بها ( كانت آسفي في القرن ما قبل الماضي 19 مركزا تجاريا مهما
تشرف عليه شركة دنمركية، وكان البرتغاليون من قبل يشجعون التجارة فيها وبلغت
شهرتها في القرن 17 درجة عظيمة صدر معها الأمر إلى كل سفينة بريطانية تزور المغرب
أن تبدأ بزيارة آسفي). و حلّ بالمدينة الرحالة الفرنسي "أوبان أوديسكوس أوجين"
سنة 1902 م، حيث جمع كتاباته تحت عنوان " مغرب اليوم" سنة 1904 م، و قام
بترجمة نصوصها الدكتور محمد حجي تحت عنوان " آسفي وعبدة في مطلع القرن العشرين من خلال كتاب أوبان "
( وصل أوبان إلى آسفي فشاهد الشاطئ المستدير مع آثار مركب برتغالي قديم على الرأس
المشرف من جهة الشمال والمدينة المتراكمة فوق نتوء صخر ينحدر بسرعة نحو البحر
والقصبة المرتفعة في جانب النجد، ومن داخل القصبة يبصر عند قدميه شلالا ضيقا من
الدور البيضاء المنبسطة السطوح الشديدة الانحدار بين سورين متوازيين محصنين ببروج
مسننة تنبثق وسطها كتلة الصومعة المربعة الفريدة، وإلى اليمين واد عميق يضم قبابا
وأكواخا مبعثرة (..) وإلى اليسار ربض الشيخ أبي محمد صالح مقر مستودعات التجار،
أُخذ المؤلف بهذا المنظر العجيب فحكم
لآسفي بأنها أجمل مدينة شاطئية بالمغرب ).
وتحدث
الكاتب الإنجليزي "سكون أوكنور" عن آسفي وهي تحت الحماية الفرنسية قائلا
( وبالرغم من أن البرتغاليين لم يحتلوها أكثر من جيل فإن طابعهم أصبح عالقا بها،
ويتمثل ذلك في أسوارها الضخمة وفن السلالم التي نحتوها من الصخر، وفي القلعة التي
تبدو شديدة المناعة، ويوجد داخلها قصر مغربي صغير، وبالقرب منه مسجد مولاي زيدان
السعدي، لكن هذا المسجد لا يتمتع بأكثر من الجمال الخارجي، أما داخله فقد تهدم
ولذلك لم تعد تقام به الصلاة). وزار المدينة في مطلع القرن العشرين، في عهد المولى
عبد العزيز، الرحالة والديبلوماسي الفرنسي "ايتيان ريشت"، حيث وصفها
بالقول ( وصلنا إلى آسفي والشمس تغرب، هذه المدينة محصورة في نتوء صخري ينحدر نحو
البحر، وأول من يظهر منها قصبتها (..) وعلى الشاطئ قلعة منشأها برتغالي وتكمل
بتناسق التحصينات، وفي وسط المدينة البيضاء برز هيكل مربع لصومعة، وإلى اليمين
مسيل واد عميق (..) وعلى جانب ضريح ولي المدينة شيدت المخازن وبناية الزاوية).
آسفي ليست بقعة جغرافية محدودة بمحيط معين، بل
هي التاريخ والحضارة والجمال، هي الإرث الإنساني، أقدم مدن المغرب المأهولة، تبارى
في وصفها الشعراء منذ أن كان الشعر والشعراء، أحبوها وكتبوا عنها، ووصفوها
بأشعارهم، زارها شعراء كثر لم يستطيعوا
إخفاء عشقهم وولعهم بها. ويكفينا فخرا ما قاله
الإمام أبو حفص عمر بن عبد الله الفاسي:
لله دركم بني آسفي فنزيلكم يشفى من الأسف
أخلاقكم
كالعطر في نفس ووجوهكم كالبدر في شرف
أو
قول محمد بن الطاهر الهواري:
أهلا
بأهل آسفي من كل خل منصف
أكرم
بهم من معشر حازوا الجمال اليوسفي
سادوا
الأنام كرما فمثلهم فلتعرف
أما
الوزير الشاعر محمد بن ادريس العمراوي فقد قال عن أهلها:
إن لم تعاشر أناسا خيموا آسفي فقل على عمر قد ضاع وا آسفي
آسفي
حيّرت الأركيولوجيين والمؤرخين
وحتى
الكُتّاب كان لهم نصيب وافر في التعريف بآسفي، حيث جاء في "رواية
خبز وحشيش وسمك" للأستاذ عبد الرحيم لحبيبي قوله (كان البحر بدءا، وكانت
آسفي، استوت على الجرف العالي واستوى الفلك على الجودي، صاعدة من قلب الطوفان
جوهرة ومنارة وحضنا للتائهين والحيارى وعابري المحيط والمؤلفة قلوبهم على الخير
والصلاح والواصلين من أهل الله (..) من قمة سيدي بوزيد تبدو المدينة في عناق حميمي
خالد مع البحر، فكأنها تخرج من بين ذراعيه، أو هو ينسل من بين أحضانها، أو كأنهما
في اللحظات الأخيرة للانفصال عن بعضهما أو هما في اللحظة الأولى للعناق والالتحام
والضم). وقال الأستاذ محمد القاضي عن آسفي ( ارتبطت بالبحر ارتباطا وثيقا منذ
القدم إلى اليوم، هذه المدينة الضاربة بمهمازها في جلد التاريخ. إنها العروس
البيضاء المستلقية على ضفاف المحيط الأطلسي، ما زالت تستحم في هدوء تحت أشعة الشمس
الذهبية، هذا البحر بأمواجه الزبدية يداعبها في حركة مد وجزر سرمدية (..) مدينة
حيّرت الأركيولوجيين والمؤرخين بسرها التاريخي والحضاري الدفين. وفي كل مرة تطل من
تحت أنقاض زمنها القديم بصمات ومعالم لحضارات عريقة كالفينيقية والقرطاجية (..)
وربما الفرعونية. انصهرت فيها أجناس بربرية وإفريقية وعربية وأوربية، وتعايشت فيها
الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلامية).
ما
يشبه الختم:
حاولت
في هذا المقال الهروب من حاضر المدينة إلى ماضيها الجميل، في نوع من النوستالجيا
والحنين للماضي، وأعلم علم اليقين أن الناس تهرب من الماضي إلى المستقبل، وليس
العكس، قد لا يتفق معي البعض، ويرى أني قد بالغت في حب ماضي آسفي، وفي المقابل
يتفق معي الكثيرون أن آسفي اليوم، بحاجة لبعث جديد لتكتمل صورتها البهية، حضارة
وتاريخا وتنمية. وعلى الرغم من واقع التهميش المفروض على المدينة و مراسيم الحداد
اليومية، تمنحك آسفي أملا أنها عائدة كما كانت وأجمل، تغريك بجمال الأيام القادمة
لتُنسيك قَباحة اللّحظة. وإن كنت قد سجلت في هذه المقالة بعضا من تاريخ ومكانة هذه
المدينة القديمة عبر التاريخ، فقد غابت عني الكثير من الحقائق التي أخفتها دفات المصادر
أو طمست معالمها حوادث الأيام.