توطئة:
الحب
ليس محصورا دائما بين كائنين بيولوجيين، بل هناك أيضا حب للأمكنة والمدائن. والكتابة عن المدن متعة آسرة، لا
يعادلها إلا قصائد العشق أو أغاني الفرح. وإذا
كانت هناك مدنا لا تَستهوي زوارها ولا تُحرك لهم في النفس ساكنا، فإن مدنا أخرى
تستحيل الحياة من دونها بلا معنى. فهناك مدن تحبها، وأخرى تنفر منها، وثالثة تلبسك
بمجرد أن تطأها حتى تنقلب حياتك رأسا على عقب وكأنما خُلقت حينها. هذه المدن هي
التي تستحق أن تتوقف عندها بالتفكير والحنين والعشق. آسفي، حاضرة المحيط، كما أسماها بن خلدون، واحدة من تلك
المدن الرائعة التي تسكن التاريخ البشري، بل هي حكاية أسطورية تتردد تفاصيلها
الساحرة في زوايا الحضارة الإنسانية. آسفي، تاريخ عريق، وصفحة رائعة من الحضارات والشعوب
والديانات التي تعاقبت على هذه الأرض التي تعشق التنوع وتحتضن التعدد. هي بلا شك،
أيقونة التسامح وعنوان الانفتاح، بكل ما تحتويه من حضارة ضاربة في أعماق التاريخ
البشري.
فكل
من يزور آسفي يَعز عليه فراقها، وكل من عرفها تعلق بها، إنها المدينة الباذخة
في الفرح والقَرح، تُعطي وتجزل في العطاء، ولا تنتظر مقابلا لقاء ذلك.
آسفي مدينة فاتنة لا يخضع لجمالها كل من رآها فقط، بل يُتَيّم بها حتى من سمع عنها
ووصله صيت أخبارها. هي مدينة ضاربة في القدم، أنشئت على وادي الشعبة، منبع الطين و
الخزف الذي اشتهرت به المدينة. لا يعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه آسفي، فهي
قديمة قدم التاريخ نفسه، وقد حيكت حول تأسيسها واشتقاق اسمها روايات متضاربة. ولعل
الأحفوريات التي اكتشفت بجبل ايغود شرق المدينة سنة 1962 ، والمتكونة من بقايا
عظمية بشرية وحيوانية وأدوات مختلفة تفيد بأن الإنسان عمّر آسفي قبل خمسين ألف
سنة. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع التي تشهد
على تاريخها العريق، وورد اسمها ضمن أمهات المعاجم، وذكرها ابن بطوطة في مذكراته
الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وزارها وزير غرناطة لسان الدين بن
الخطيب، وأعجب بها "الدون إمانويل" ملك البرتغال، فشيّد بها كاتدرائية بهندسة فريدة،
ووقّع ثلاثة من أبنائها على وثيقة الاستقلال، تقف أسوارها شاهدة على ماض مجيد، حتى
وصل ساحلها القائد العربي عقبة بن نافع، ووصفت بأقدس مناطق المغرب، تُنبت أرضها
الصلحاء كما تُنبت العشب، وأنشأ بها الشيخ أبي محمد صالح مؤسسة الركب الحجازي، حتى
باتت مركز إشعاع علمي. ومنها أطلق سيدي محمد بن سليمان الجزولي الإشعاع لطريقته
الصوفية.
ونظرا لأهمية آسفي، فقد
شكلت وجهة مفضلة للعديد من الأسر الأندلسية والعربية حتى وصفت بأنها مدينة
دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل، ويفد عليها المبعوثون البريطانيون قبل التوجه
إلى مراكش، وترسو بها السفن الأوربية التي ترغب في إبرام الاتفاقيات الدولية
بالعاصمة مراكش. وازداد اهتمام السلاطين بآسفي فأقاموا بها دارا لضرب السكة ما بين
1716 و 1830م. وقديما جعلها المرابطون مرسى الإمبراطورية المرابطية، ومركزا لتجميع
قوافل الذهب الإفريقي، والبرتغاليون جعلوها ميناء رئيسيا لتصدير الحبوب والسكر
والصوف.
لآسفي ألف حكاية مع البحر..
ولمدينة آسفي الجوهرة
الراقدة على شواطئ المحيط الأطلسي، وَلع لا يُضاهى بالشأن البحري قديمه وحديثه، خَبَرت
آسفي البحر وأهواله، وفنونه وعلومه، كما كان السفر عبر البحر منذ القديم، مهنة للعديد من
أبناء آسفي الذين تعلموا أصوله، وورثوها لأبنائهم، كما أفلحت المدينة في تَحدّي
أمواج البحار، لتتحول بذلك إلى أول ميناء للصيد البحري بالمغرب، حيث اشتهر بها
الربابنة والرياس الكبار، حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين، مما جعلها تُغْري
بلذائذ أسماكها جيراننا فجاؤوها محتلين. و لآسفي ألف حكاية مع البحر،
حفظ منها الزمان ما تيسر والكثير منها ضاع واندثر. ولمرسى آسفي أدوار في الملاحة البحرية القديمة، حيث
تُعتبر من أقدم موانئ المغرب، و من بين ثمانية موانئ فقط فُتحت للتعامل التجاري مع
الخارج، حيث تزعمت حركة الاتصال بالعالم الخارجي منذ القديم. ذلك أن سكان آسفي لم
يكونوا يعيشون في معزل عن حضارة الشعوب المجاورة، وخاصة شعوب أوربا ومنطقة البحر
المتوسط، بل كانت لهم صلات وعلاقات متعددة مع هذه الشعوب. و ما زلنا حتى الآن
نلاحظ تشابها في عدد كبير من عاداتهم وكلمات لغاتهم، ونجد هذه الظاهرة كذلك في
المفردات الخاصة بالبحر.
في كتابه "بصمات
المحيط الأطلسي في تاريخ وعمران حاضرة آسفي" يقول الباحث والمؤرخ ابراهيم
كريدية عن آسفي (منذ اليوم الأول من تأسيسها، قبل زمن بعيد، موغل في القدم لا يعلم
قدره إلا الله، اختارت أن تتموضع وتستقر وتتوسع عبر ما تعاقب عليها من عصور و دول،
على حرف خليج بحري دائري وواسع، يطل على هذا المحيط الصاخب (..) في بعض الروايات
التاريخية يقترن اسم مدينة آسفي بالبحر، وفي ذلك تأكيد منها، لما بين هذه الحاضرة
وظهيرها البحري، من وثيق الصلة في كل العصور (..) وقد التصق ذكر آسفي كموقع بحري
وكمرسى بالاكتشافات والمغامرات البحرية، بما فيها القديمة والغابرة والحديثة،
ونذكر منها ثلاث رحلات متباعدة في الزمان،
وهي رحلة حانون، التي كانت آسفي واحدة من محطاتها الرئيسية، ثم رحلة المُغَررين
وكانت آسفي خاتمتها الحزينة، وأخيرا رحلة رع، وكانت آسفي نقطة انطلاق نجاحه) . ويضيف
الباحث كريدية بأن (مدينة آسفي، تدين في وجودها و استمراريتها منذ غابر الأزمان و
حتى اليوم، وفيما عرفته وتعرفه حتى اليوم من ازدهار تجاري وإشعاع اقتصادي وتوسع
عمراني، إلى ميناءها و ما يشهده قديما وحديثا و راهنا، من حركات وضع و وسق تجاريين).
لقد لعب ميناء آسفي دورا
كبيرا في تاريخ المغرب، على اعتبار أنه كان نقطة عبور أساسية للعديد من الشعوب
الباحثة عن موطئ قدم بالقارة الإفريقية، كما كان مَعْبَرا أساسيا للمغامرين
والباحثين عن المواد الأولية والأسواق التجارية، مما جعل سلاطين المغرب يهتمون به.
ويرى الأستاذ محمد بالوز في كتابه " صفحات من تاريخ مدينة آسفي " أن (موقع آسفي كان معروفا عند الفينيقيين، لأنه
يضم أقدم ميناء افريقي على الساحل الأطلنتيكي، نظرا لوجوده في موقع يمكن لأي مركب
قادم من البحر المتوسط، أن يكون ذا حظ وافر في الاندفاع تجاه خط عرض المحيط الأطلسي. فمباشرة خارج آسفي يمر
تيار الكناري الذي يهب من الشمال الشرقي في اتجاه الجنوب الغربي، حاملا كل ما يطفو
على الماء ويدفع به تجاه القارة الأمريكية ) .
وعندما
تخلصت آسفي من السيطرة البرغواطية على يد الدولة المرابطية، أصبحت لها شهرة عالمية، لكونها شغلت لفترات
معينة مرسى العاصمة السياسية مراكش، حيث كان لابد للسفراء والقناصل الذين يصلون
إلى مراكش من النزول بآسفي، ثم الانطلاق منه إلى مراكش. وفي عهد الدولة الموحدية،
عرفت آسفي نهضة عمرانية، تمثلت في كونها أصبحت مرفأ تجاريا وعسكريا مهما لاستقبال
السفن القادمة من الأندلس. و خلال القرن الرابع عشر الميلادي عرفت مرسى آسفي
ازدهارا تجاريا في العصر المريني، فأصبحت قبلة تجار الأندلس والتجار المسيحيين،
ومنهم تجار ايطاليون من جنوة وغيرها، وتحولت آسفي بفضل حركتها التجارية إلى مرجع
رئيسي للتجار المسيحيين بالنسبة للمكاييل وعمليات صرف المسكوكات الذهبية و الفضية،
وغَذَت موردا رئيسا لتغذية بيت مال الدولة من مداخيل ضرائب التجارة، من أعشار ومكوس.
وخلال القرنين 15 و 16 أصبحت مدينة آسفي، من أكثر الموانئ المغربية استفادة من
تجارة البرتغال، إذ أصبح بإمكان المدينة أن تُزود كل تجارة سواحل افريقيا بما
تحتاجه من سلع، وتروج كل ما يُجلب إليها عن طريق البرتغال من الهند.
وعلى
الساحل الأطلنتيكي كان ميناء آسفي من الموانئ التي يستخدمها الإنجليز للتبادل
التجاري مع المغرب، حتى صار ميناء آسفي متخصصا في استيراد المدافع والبنادق
والبارود والرصاص والقنابل. ومن صادرات ميناء آسفي إلى انجلترا، السكر والذهب
والجلود والثمر والشمع واللوز وريش النعام. كما تَعَرّف عليها التجار الإنجليز قديما إلى أن صاروا اختصاصيين في
شؤونها، حيث ظهر التأثير العمراني والتجاري بالمدينة، خصوصا عندما أقام الإنجليز
شرق قصر البحر مركزا تجاريا انجليزيا مبنيا بالحجارة والخشب والقرميط على الطريقة
الإنجليزية في ساحة مولاي يوسف حاليا، هذه البناية الأثرية تم تدميرها في بداية
الثمانينات من القرن العشرين. و بعد أن تحررت آسفي من سيطرة البرتغال وآلت شواطئها
إلى الشرفاء السعديين، أصبح ميناء آسفي ميناء رئيسيا للصادرات والواردات، كما كانت
السفن الأوربية تحمل إلى آسفي الثياب
والملف والذخائر، وحتى الكمانات لعازفي
الجوق السعدي، وكتاب التوراة لليهود والساعات والعطور. وقبل التوجه إلى العاصمة
السياسية مراكش، كان المبعوثون البريطانيون كباقي السفراء الأجانب ينزلون بآسفي.
وهكذا أصبحت آسفي ميناء دبلوماسيا للدولة السعدية.
وهنا لابد من الإشارة إلى
المحطة البارزة التي ظهرت فيها دبلوماسية السكر على حد تعبير المؤرخين الأوربيين،
حيث كان السكر القادم من شيشاوة في مقدمة المواد التي تُسوقها المدينة لإنجلترا،
لأن المملكة لم تكن تقبل في مطبخها، حسب ما يقوله "هنري روبيرتس"، إلا
السكر المغربي، علاوة عن أن آسفي كانت مُنطلقا لملح البارود المغربي، الذي لم يكن
يوازيه أي ملح في العالم، والذي كان الدفاع الحربي الإنجليزي يعتمده، إضافة إلى
كون المدينة كانت تزود أوربا بأجود الصقور المغربية، التي ساهمت في تطوير هواية
القنص بالصقر، دون أن ننسى تصدير الشمع، حيث كان المستهلكون يُقْبلون عليه لقوة
نوره وصفائه، وللرائحة التي يستنشقونها عند احتراقه، وكأنه مُزج بمادة العطر.
وفي
سنة 1577 م قام الرحالة الكبير "فرانسيس درييك" Francis Drake بأول جولة له حول العالم، فتوقف بآسفي بأسطول
متكون من خمس سفن، وأزيد من مئة وخمسين شخصا. وفي منتصف القرن 17 ، أصبحت آسفي أهم الموانئ المغربية التي تضم بيت مال
المسلمين لتقديم أجور العساكر، كما كان التجار يحلون بها عند قدومهم إلى المغرب. و
قد ارتبط بهذه المرسى نشاط جمركي كبير اشتهر ب " الديوانة"، ويسميها أحد
الأوربيين " دار النصارى"، وهي بحسب وصفه، تتخذ شكل فندق كبير، وكل دولة
لها علاقات تجارية مع ميناء آسفي، تمتلك به محلا، فيه يسكن ويعيش ممثلوها من
الفرنسيين والإنجليز والهولنديين و غيرهم، وكذا المغامرين النشطاء في ميدان
التجارة. وحتى عشية الحماية الفرنسية كانت السفن تقصد مرسى آسفي، من موانئ كبيرة
معروفة بأوربا و العالم، بقوة حركتها التجارية واتساع علاقاتها ومعاملاتها
التجارية، وبحكم نشاطها التجاري الواسع مع الخارج، فإنها كانت مستقرا لعدد من
الشركات الملاحية.
آسفي
تنبت الصلحاء كما تنبت الربيع
منذ
أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام، اعتبرت آسفي ضمن المدن المقدسة المعروفة في
العالم القديم، فبشمال المدينة، توقف الرحالة المغامر "حانون القرطاجي"،
في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وبنى معبدا ضخما ل"بوصيدون" سيد البحر والأنهار
والعواصف، وترك لنا نصا منقوشا على لوحة من البرونز يروي فيه رحلته بالتفصيل، ولم
يصلنا منها إلا ترجمتها اليونانية التي قام بها شيخ المؤرخين هيردوس. هذا التقرير
يشير إلى منطقة آسفي في الفقرة الثالثة ( ثم اتجهنا إلى الغرب وأدركنا مكانا يعرف
بصوليوس كاب صوليس (..) بعدما أقمنا هناك
معبدا للإله بوصيدون، سافرنا في البحر مدة نصف يوم فوصلنا إلى بحيرة قريبة من
البحر يغطيها قصب كثير ومرتفع ترعى فيه الفيلة وعدد كبير من الحيوانات الأخرى..).
ولعل
أهم حَدث عرفته المدينة، هو دخول الإسلام لآسفي على يد الصحابي القائد عقبة بن
نافع الفهري عام 62 هجرية / 681 ميلادية، حيث وقف على شاطئ بحرها المحيط ودعا
بدعائه الشهير (اللهم رب محمد، لولا أني لا أعلم وراء هذا البحر يابسة لاقتحمت هذا
الهول المائج لأنشر اسم مجدك العظيم في أقصى حدود الدنيا (..) اللهم إني لم أخرج
بطرا ولا شبرا وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تعبد
ولا يشرك بك شيئا". وقد ترك عقبة بن نافع صاحبه شاكر لينشر الإسلام بالمنطقة،
وتحول مقامه إلى رباط يعمره الصالحون، حتى قيل أنه أول وأقدم مسجد بالمغرب. وقد
ترك لنا المؤرخ أحمد بن الخطيب القسنطيني (بن قنفذ) وصفا لهذا الرباط الذي يعقد
فيه الزهاد والعباد من مختلف نواحي المغرب مؤتمرهم السنوي فقال " ولقد حضرت
مع جملة من هذه الطوائف مواطن عدة، منها زمان اجتماع فقراء المغرب الأقصى على ساحل
البحر المحيط، جوف إقليم دكالة بين بلد آسفي وبلد تيطنفطر، وكان الاجتماع في شهر
ربيع الأولى المبارك الأسعد سنة تسع وستين وسبعمائة (1367 م) وحضر من لا يحصى عدد
من الفضلاء، ولقيت هناك من أخبارهم وعلمائهم وصلحائهم ما شردت به عيني بسبب كثرتهم).
ويصف بن قنقذ آسفي قائلا (إن أرضها تُنبت الصلحاء كما تنبت الربيع".
قالوا
عن آسفي..
خلال
رحلته إلى المغرب في القرن الثامن للهجرة الرابع عشر الميلادي، قال الأديب والوزير
لسان الدين بن الخطيب عن آسفي " لطف حفي وجناب خفي ووعد وفي ودين ظاهره مالكي
وباطنه حنفي، الدماثة والجمال والجلال والصبر والاحتمال والزهد والمال، قليلة
الأحزان صابرة على الاختزان وافية المكيال والميزان، رافعة اللواء بصحة الهواء،
بلد موصوف برفيع ثياب الصوف، وبه تربة الشيخ أبي محمد صالح، وهو خاتمة المراحل
لمسورات ذلك الساحل). ويصف القاضي الأندلسي مطرف بن غميرة المخزومي آسفي بكونها
" أخصب الأرجاء وأقبلها للغرباء ". وقال عنها ناظر أحباسها الفقيه المؤرخ أحمد الصبيحي
السلاوي " أهل آسفي أهل دين متين، ودماثة أخلاق يألفون ".
وزار
آسفي الطبيب الإنجليزي "ارثر ليرد" سنة 1872 م، أواخر عهد السلطان محمد
بن عبد الرحمان، وقال فيها (مدينة عريقة في القدم، وهي عاصمة عبدة، ويحيط بها سور
عال، كما تقع على هضبتين، ولا تزال بها آثار قصور ومعاقل البرتغال، ويبلغ عدد
سكانها 8000 نسمة (..) من بينهم عدد مهم من اليهود)، وكتب عن مرسى آسفي قائلا (تقع
آسفي على ساحل بحر شديد الهيجان، ومن المسلي مشاهدة المهارة والجرأة التي يحوط بها
البحارة في قواربهم المحملة بالحبوب الأمواج الخطيرة إلى البواخر التي تنتظر بعيدا
في عرض البحر، وتوجد بالقرب من الساحل صخرة تحيط بها المياه بينما يكون المد
عاليا، يقف عليها رجل مغربي يراقب سير الأمواج حتى إذا حل الوقت الذي يصبح فيه من
الممكن أن تعبر المركب أعطاها إشارة بذلك)، وعن جمال حدائق آسفي ومظاهرها الطبيعية
الخلابة نورد قوله ( إن خصوبة وجمال الحدائق التي يمتلكها الأوربيون في مدينة
آسفي، وعلى رأسها حديقة مستر مردوخ، لأقوى دليل على مدى ما يمكن أن يتحقق من نجاح
زراعي في هذه البلاد، ففي كل مكان يوجد فيه ماء تلبس الأرض أرديتها الخضراء..).
أما وصفه لقصر السلطان بآسفي فينم عن حنين إلى
هذا القصر الذي كانت تعيش فيه سيدة انجليزية من أصل ايرلندي قدمت إلى المغرب في
عهد محمد بن عبد الله وكانت جميلة المحيا، وأصبحت مغربية واعتنقت الإسلام ( بشرق
قصر السلطان على المدينة وبه قاعات ذات سقوف عالية مزخرفة بسخاء وقد بني أهم جزء
فيه بالحجر، وتوجد فوق سطحه مدافع بريطانية الصنع عديمة الجدوى (..) ويوجد بالقصر
جناح به مجموعة من الغرف كانت تقيم فيه في الماضي سلطانة من السلالة الإنجليزية..)،
وعن اليهود القاطنين بآسفي والذين لا يسكنون ملاحا خاصا بهم قال الكاتب ( لما كانت
آسفي إحدى المدن العتيقة بالمغرب فإن الناس ( اليهود) يحجون إليها، ذلك أنها تشتمل
على كثير من الدور المقدسة يشرف عليها
رهبان كسولون يعيشون على إحسان أتباعهم، ومن بينها دار تتمتع باحترام خاص
تدعى دار الإخوة السبعة اولاد بن زميرو، وقد ماتوا في يوم واحد ودفنوا بعضهم إلى
جانب بعض، ويزور اليهود قبورهم المقدسة..).
أما
الكاتبة "فرنسيس مكنب" التي زارت آسفي في مطلع 1901 م، فقد قالت في آسفي
قولة يمكن الاعتزاز بها ( كانت آسفي في القرن ما قبل الماضي 19 مركزا تجاريا مهما
تشرف عليه شركة دنمركية، وكان البرتغاليون من قبل يشجعون التجارة فيها وبلغت
شهرتها في القرن 17 درجة عظيمة صدر معها الأمر إلى كل سفينة بريطانية تزور المغرب
أن تبدأ بزيارة آسفي). و حلّ بالمدينة الرحالة الفرنسي "أوبان أوديسكوس أوجين"
سنة 1902 م، حيث جمع كتاباته تحت عنوان " مغرب اليوم" سنة 1904 م، و قام
بترجمة نصوصها الدكتور محمد حجي تحت عنوان " آسفي وعبدة في مطلع القرن العشرين من خلال كتاب أوبان "
( وصل أوبان إلى آسفي فشاهد الشاطئ المستدير مع آثار مركب برتغالي قديم على الرأس
المشرف من جهة الشمال والمدينة المتراكمة فوق نتوء صخر ينحدر بسرعة نحو البحر
والقصبة المرتفعة في جانب النجد، ومن داخل القصبة يبصر عند قدميه شلالا ضيقا من
الدور البيضاء المنبسطة السطوح الشديدة الانحدار بين سورين متوازيين محصنين ببروج
مسننة تنبثق وسطها كتلة الصومعة المربعة الفريدة، وإلى اليمين واد عميق يضم قبابا
وأكواخا مبعثرة (..) وإلى اليسار ربض الشيخ أبي محمد صالح مقر مستودعات التجار،
أُخذ المؤلف بهذا المنظر العجيب فحكم
لآسفي بأنها أجمل مدينة شاطئية بالمغرب ).
وتحدث
الكاتب الإنجليزي "سكون أوكنور" عن آسفي وهي تحت الحماية الفرنسية قائلا
( وبالرغم من أن البرتغاليين لم يحتلوها أكثر من جيل فإن طابعهم أصبح عالقا بها،
ويتمثل ذلك في أسوارها الضخمة وفن السلالم التي نحتوها من الصخر، وفي القلعة التي
تبدو شديدة المناعة، ويوجد داخلها قصر مغربي صغير، وبالقرب منه مسجد مولاي زيدان
السعدي، لكن هذا المسجد لا يتمتع بأكثر من الجمال الخارجي، أما داخله فقد تهدم
ولذلك لم تعد تقام به الصلاة). وزار المدينة في مطلع القرن العشرين، في عهد المولى
عبد العزيز، الرحالة والديبلوماسي الفرنسي "ايتيان ريشت"، حيث وصفها
بالقول ( وصلنا إلى آسفي والشمس تغرب، هذه المدينة محصورة في نتوء صخري ينحدر نحو
البحر، وأول من يظهر منها قصبتها (..) وعلى الشاطئ قلعة منشأها برتغالي وتكمل
بتناسق التحصينات، وفي وسط المدينة البيضاء برز هيكل مربع لصومعة، وإلى اليمين
مسيل واد عميق (..) وعلى جانب ضريح ولي المدينة شيدت المخازن وبناية الزاوية).
آسفي ليست بقعة جغرافية محدودة بمحيط معين، بل
هي التاريخ والحضارة والجمال، هي الإرث الإنساني، أقدم مدن المغرب المأهولة، تبارى
في وصفها الشعراء منذ أن كان الشعر والشعراء، أحبوها وكتبوا عنها، ووصفوها
بأشعارهم، زارها شعراء كثر لم يستطيعوا
إخفاء عشقهم وولعهم بها. ويكفينا فخرا ما قاله
الإمام أبو حفص عمر بن عبد الله الفاسي:
لله دركم بني آسفي فنزيلكم يشفى من الأسف
أخلاقكم
كالعطر في نفس ووجوهكم كالبدر في شرف
أو
قول محمد بن الطاهر الهواري:
أهلا
بأهل آسفي من كل خل منصف
أكرم
بهم من معشر حازوا الجمال اليوسفي
سادوا
الأنام كرما فمثلهم فلتعرف
أما
الوزير الشاعر محمد بن ادريس العمراوي فقد قال عن أهلها:
إن لم تعاشر أناسا خيموا آسفي فقل على عمر قد ضاع وا آسفي
آسفي
حيّرت الأركيولوجيين والمؤرخين
وحتى
الكُتّاب كان لهم نصيب وافر في التعريف بآسفي، حيث جاء في "رواية
خبز وحشيش وسمك" للأستاذ عبد الرحيم لحبيبي قوله (كان البحر بدءا، وكانت
آسفي، استوت على الجرف العالي واستوى الفلك على الجودي، صاعدة من قلب الطوفان
جوهرة ومنارة وحضنا للتائهين والحيارى وعابري المحيط والمؤلفة قلوبهم على الخير
والصلاح والواصلين من أهل الله (..) من قمة سيدي بوزيد تبدو المدينة في عناق حميمي
خالد مع البحر، فكأنها تخرج من بين ذراعيه، أو هو ينسل من بين أحضانها، أو كأنهما
في اللحظات الأخيرة للانفصال عن بعضهما أو هما في اللحظة الأولى للعناق والالتحام
والضم). وقال الأستاذ محمد القاضي عن آسفي ( ارتبطت بالبحر ارتباطا وثيقا منذ
القدم إلى اليوم، هذه المدينة الضاربة بمهمازها في جلد التاريخ. إنها العروس
البيضاء المستلقية على ضفاف المحيط الأطلسي، ما زالت تستحم في هدوء تحت أشعة الشمس
الذهبية، هذا البحر بأمواجه الزبدية يداعبها في حركة مد وجزر سرمدية (..) مدينة
حيّرت الأركيولوجيين والمؤرخين بسرها التاريخي والحضاري الدفين. وفي كل مرة تطل من
تحت أنقاض زمنها القديم بصمات ومعالم لحضارات عريقة كالفينيقية والقرطاجية (..)
وربما الفرعونية. انصهرت فيها أجناس بربرية وإفريقية وعربية وأوربية، وتعايشت فيها
الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلامية).
ما
يشبه الختم:
حاولت
في هذا المقال الهروب من حاضر المدينة إلى ماضيها الجميل، في نوع من النوستالجيا
والحنين للماضي، وأعلم علم اليقين أن الناس تهرب من الماضي إلى المستقبل، وليس
العكس، قد لا يتفق معي البعض، ويرى أني قد بالغت في حب ماضي آسفي، وفي المقابل
يتفق معي الكثيرون أن آسفي اليوم، بحاجة لبعث جديد لتكتمل صورتها البهية، حضارة
وتاريخا وتنمية. وعلى الرغم من واقع التهميش المفروض على المدينة و مراسيم الحداد
اليومية، تمنحك آسفي أملا أنها عائدة كما كانت وأجمل، تغريك بجمال الأيام القادمة
لتُنسيك قَباحة اللّحظة. وإن كنت قد سجلت في هذه المقالة بعضا من تاريخ ومكانة هذه
المدينة القديمة عبر التاريخ، فقد غابت عني الكثير من الحقائق التي أخفتها دفات المصادر
أو طمست معالمها حوادث الأيام.