يتميز المغرب بخصوصية جغرافية فريدة جعلته نقطة التقاء
الحضارات الشرقية والغربية، الشمالية والجنوبية ، فشكل بذلك معبرا وممرا لهذه
الحضارات ، وهو ما أكسبه خاصية التعايش الحضاري التي ميزته ، فكان كنفا لثقافات وحضارات
، وفدت عليه من مختلف أقطار العالم القديم ، فامتزج فيها سكانها الأصليين بالمهاجرين ، الذين استقروا بالمغرب عبر هجرات
متتالية قبل و بعد الفتح الإسلامي ، فنسج على مدى قرون طويلة ، الهوية المغربية ،
من الأمازيغ والكنعانيين والفينيقيين ، العرب المسلمين و غيرهم [1]
، فكان نتاج هذا اللقاء والتمازج أن تشكلت هوية مغربية موحدة بالرغم من المتغيرات
التي يفرضها التنوع الثقافي لهذه الأجناس ، التي تمغربت وصار من الصعب عليها
العودة إلى ثقافتها الحضارية كما كانت [2]
.
بدورها تميزت مدينة الرباط بموقع جغرافي ، جذب إليها
العنصر البشري منذ القديم ، حيث امتزجت فيها فئات أمازيغية وعربية ، إسلامية ويهودية ، بعضها عريق في
المنطقة ، و البعض الأخر هاجر إليها من الشرق ، و البعض و فد عليها من أقاليم
مغربية مختلفة ، قبل أن ينزل بها الأندلسيين[3]
، ويغنوا تراثها الحضاري والثقافي ، و كان لكل عنصر من هذه العناصر المكونة
للمجتمع الرباطي في مختلف مراحله التاريخية ، دورها وإسهامها في تكوين وتعزيز
الهوية والشخصية الرباطية ، وكان لكل واحدة من هذه العناصر أدوار حضارية وثقافية واقتصادية
، يشهد لهم بها معظم المؤرخين والكتاب[4]
الذين تحدثوا في أبحاثهم عن المجتمع الرباطي .
يمكن تقسيم المجتمع الرباطي إلى قسمين بارزين ، حتى نبرز
الخاصية الاجتماعية للعنصر البشري الذي يكون المجتمع الرباطي ،و القسمين هما قسم خاص بالعنصر الإسلامي
الذي يتكون من أجناس مختلفة ، و قسم العنصر اليهودي الذين كان له حضور في
المجتمع الرباطي منذ القديم .
يدخل ضمن
هذا العنصر البشري العديد من الأجناس المختلفة والتي أسلمت مع الفتح الإسلامي ،
رغم الميزة التي طبعت ساكنة المغرب عامة و
من ضمنها سكان منطقة الرباط الأصليين ، في
الإصرار على الإنفراد بخصوصيتهم الثقافية ، إلا أن شروط الانصهار الحضاري وميزة
التعايش لدى ساكنة المغرب ، سمح للإسلام باحتلال الصدارة في تشكيل الثقافة
المغربية ، ـ على عكس المسيحية التي اعتنقوها في العهد الروماني ، والذين تمردوا
فيها على الكنيسة الرسمية بروما ، و انفردوا بمسيحيتهم التي طبعوها بلون وطني ـ ،
و كان السبب في منحهم للإسلام ذلك الاستثناء ، لأنهم وجدوا في لغة القرآن وشريعته
ما استهوى نفوسهم [5] ، ورغم
ذلك كان تعربهم لا يخضع للعروبة العرقية بالقدر الذي كان انتماء للعروبة اللسانية [6]
.
يتطرق
الفقيه عبد الحفيظ الفاسي في كتابه
"خطوات و خطرات " للعنصر البشري المكون للمجتمع الرباطي فوضع لها تقسيما
اثنيا صنفه إلى أربع مجموعات و هي :
القسم
الأول : يسميهم بالشاليين [7]
و هم أولائك الذين نزحوا من مدينة شالة الأثرية بمجرد بناء رباط الفتح في العهد
الموحدي ، و يعتقد أنهم السكان الأصلين للمدينة، الذين تواجدوا بمنطقة الرباط منذ
ما قبل العهد الفينيقي و الروماني و
انتقلوا إلى شالة الأثرية عند بناءها من طرف الفينيقيين ، خاصة وأن الاثريين
يرجعون الاستيطان البشري بالمنطقة إلى ما قبل 160.000 سنة قبل الميلاد .
القسم
الثاني : فينعتهم الفاسي بالأخلاط النازحين
إلى الرباط ، وهم من العرب والأمازيغ ، و نلاحظ من هذا التقسيم أن عبد الحفيظ
الفاسي جعل من العرب و الأمازيغ قسما ثانيا نزح إلى الرباط ، و هنا نتساءل، هل
الشاليين لم يكونوا أمازيغ ؟!!
تزامنت هجرة العرب إلى منطقة الرباط ، مع هجرات القبائل
الأمازيغية ، في القرون الهجرية الأولى ، و من أشهرها عرب الحجاز ، الذين وفدوا
على المغرب مع الفتح الإسلامي ، و عرب بني معقل خلال القرن 6 هـ / 12م ، الذي
تنحدر منهم قبائل الوداية التي استوطنت الرباط في القرن 19م / 13هـ[8]
، و من أشهر عائلاتهم نجد عائلة الإدريسي ، و بالمقدم ، وعائلة حسان [9].
أما العنصر
الأمازيغي ، فجل الدراسات[10]
التي تتحدث عن المغرب القديم و سكانه الأصليين ، فيشيرون إلى أقدمية هذا العنصر
باعتباره أقدم من استوطن المغرب ، وتنقلوا في ربوعه بحثا عن مكان يوفر لهم
حاجياتهم الغذائية ، والأمنية ، فكانت منطقة الرباط ، من المناطق التي استهواهم
جوها و موقعها ، فاستقرت بها القبائل الأمازيغية طيلة القرون الهجرية الأولى وخلال
عهد الدولة المغربية ( الأدارسة ، المرابطون ،و الموحدين، إلخ) ، فعزز بذلك الجنس
الأوربي ، والصنهاجي ،المصمودي و الزناتي ، التشكيلة البشرية والعرقية للمجتمع
الرباطي .
و يصف عبد
الحفيظ الفاسي القسم الثالث ، ببيوتات أهل الأندلس ، المتكونين من المورسكيين
المطرودين من بلاد الأندلس ، حيث استقطبت مدينة الرباط ، أفواجا من المهاجرين
الأندلسيين ، عبر هجرات متتالية ، انطلاقا من القرن 13 الميلادي / 7 الهجري، حيث
منحهم الخليفة الموحدي ظهير يسمح لهم بالاستقرار برباط الفتح[11] [ملحق رقم 8]، وقد ظل التبادل السكاني بين شمال
وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط سمة بارزة ، ودائمة عبر تاريخ المنطقة[12]
ويمكن أن نعتبر هجرات المورسكيين إلى المغرب هجرة معاكسة ، فقد سجلت حركة عبور
مكثفة للسكان المغاربة و العرب الفاتحين
نحو الضفة الشمالية ، إما للجهاد أو فرارا من الفاتحين ، وقد كان لهذا
العنصر الأندلسي دور مهم في طبع الثقافة والهوية المجتمعية لمدينة الرباط بطابع
أندلسي ، أضفى عليها السمة الحضارية و المدنية.
يختم
الفقيه الفاسي تصنيفه لساكنة الرباط بالعنصر الفاسي ، فسماهم ببيوتات أهل فاس ،
الذين انتقلوا إلى الرباط خلال القرن 18م/12هـ للتجارة و غيرها ، إضافة إلى العنصر المراكشي ،
و مجموعات من المهاجرين السود الأحرار منهم و العبيد ، كما قدمت أسر من أقاليم سوس
و الصحراء ، و الشاوية ودكالة [13]
كما تدل على ذلك أسماء بعض العائلات والولاة والعمال ، الذين تعاقبوا على مدينة
الرباط ، خاصة في القرنين 18ـ19م/12ـ13 هـ، نذكر منهم على سبيل المثال ، عائلة آل
السويسي المنحدرة من منطقة سوس في الجنوب المغربي ، وعائلة الحاج أعشاش التطواني
ذي الأصل التطواني من الشمال المغربي والذي كان واليا على تامسنا والرباط سنة 1813م/
1228هـ [14].[
أنظر ملحق رقم 11].
إن طابع
التسامح والتعايش الذي يتميز به أهل المغرب عامة ، وأهل الرباط خاصة ، أدى إلى
تمازج ثقافي واجتماعي بين هذه الفئات الوافدة على المنطقة ، فميز مدينة الرباط
بطابع اجتماعي وثقافي متفرد ، و هو تمازج سمح بتكييف "نفسية الرباطيين و
مزاجهم ، مما أفضى إلى طبيعة يغلب عليها الجد و الوقار ، ونزاهة و استقامة ، و
أنفة و إباء نفس ، لكن مع سلامة صدر و تواضع جم ، يصل إلى حد نكران الذات و
التفاني في خدمة الغير والصدق في معاشرته و الأمانة في خدمته و الوفاء الخالص له[15]
هي صفات يؤكد عليها عبدالحفيظ الفاسي في
كتابه خطوات و خطرات ،لما رآه في حسن و كرم مضيفه [16]
.
كان العنصر الأندلسي أكثر الفئات المؤثرة في الطابع
الثقافي و الاجتماعي لمدينة الرباط ، حيث ساهموا في تطعيم المجتمع الرباطي بالسمة
الحضارية و المدنية ، بفضل ما حملوه معهم إلى المدينة من علم و فن و حضارة ، وفي
ذلك يقول مؤرخ الرباط محمد بوجندار " أهل الرباط على العموم هم أهل مدنية ،
لا يعادلهم فيها إلا أهل فاس و تطوان ، نظرا لأصلهم الأندلسي الأصيل في العراقة و
الحضرية التي نشاهد من آثارها في الرباط والرباطيين ، ما هو ظاهر ظهور الشمس ، في
معارفهم و آدابهم و صنائعهم[17]".
من بين الفئات الوافدة على المغرب منذ القديم ، نجد العنصر
اليهودي ، الذي استوطن المغرب في فترة مبكرة ، حيث يذهب بعض الباحثين [18]
خاصة اليهود منهم ، إلى أن العنصر اليهودي يرجع تواجده بالمغرب إلى الفترة
الفينيقية و الرومانية ، مستدلين على ذلك ، بالنقوش و الكتابات و الأثريات التي
وجدت بالمغرب ، كما هو الشأن بمدينة وليلي التي عثر فيها على شمعدان ذو السبعة
عروش ، و بقايا شاهد قبر يحمل كتابة عبرية [19] و يرجعهم البعض الآخر[20]
إلى الهجرات الأولى ، الآتية من فلسطين ، قبل الأسر البابلي الذي تعرض له اليهود ،
بعد أن قام ملك بابل نبوخد ناصر ، بمهاجمة أورشليم ( القدس) في عام 587 ق م [21]
و الهجرة الثانية كانت مع الفينيقيين ، حيث و جدوا في بلاد المغرب الفينيقي المأوى
و القبول ، والظروف الملائمة للاستيطان ، لما بين الفريقين من صلات الجنس و اللغة
و التقاليد ، وهو ما سمح لليهود بالتوغل داخل بلاد البربر ، و تمرس اليهود على
أعمال التجارة نتيجة لاحتكاكهم
بالفينيقيين ، و تمازجوا معهم لأنهم أصحاب عقيدة لا وطن ، أما الهجرة
الثالثة إلى مغرب كانت في العهد الروماني خلال القرن الأول ميلادي ، نتيجة
للاضطهاد الروماني لهم[22] ، و بما أن اليهود هم أهل تجارة فقد اختارت فئة
منهم الاستقرار في بعض المراكز الساحلية ، ذات النشاط التجاري [23]
، و بخصوص مدينة الرباط ، فتذهب الروايات إلى أنهم وفدوا عليها منذ العصور الوسطى
، فيقول في هذا ابن خلدون "أن اليهود قطنوا بلاد تامسنا و تادلا و ظلوا
يسكنون في المدينتين و بعض مناطق هذا الإقليم حتى عصر الموحدين [24]
، كما حلت طائفة منهم مع الهجرات الأندلسية في القرن 17م/11هـ [25].
رغم أقدمية هذا العنصر البشري في منطقة الرباط ، إلا انه
لم يستطع أن يؤثر بشكل كبير في المجتمع الرباطي ، بسبب العزلة الثقافية التي
فرضوها على أنفسهم في البداية ، وفرضت عليهم في النهاية ، مع المولى سليمان ، الذي
عزلهم في مجتمعهم الصغير داخل الملاحات ، و قد يعتقد البعض ، أن في هذا الأمر ميز
عنصري ، و اضطهاد لفئات طالما كانت نشيطة و مؤثرة في الحياة السياسة و الاقتصادية
للمغرب ، كما قد يستغرب البعض من أمر كهذا صادر من سلطان دائما ما نعت بالفقيه
الذي يصلح أن يحكم بين الملائكة لا بين البشر، لورعه و تقواه ، خاصة و أن لا وجود
لهذه العنصرية في الأديان السماوية ، لكن المتمعن في الأمر سيجد أن لا علاقة تربطه
بالميز العرقي أو الديني ، و إنما هو راجع إلى أسباب مادية ، و اليهود أنفسهم ،
تأكد لهم بالملموس ، أن هذا الأمر هو في صالحهم ،إذ وفر لهم فضاء يمارسون فيه
حريتهم الدينية وممارساتهم الاجتماعية ، بالإضافة إلى الأمن والأمان الذي توفره
لهم أسوار الملاح[26] ، لكن
رغم هذه العزلة التي أحاط بها اليهود أنفسهم لم تمنعهم من المشاركة في الحياة
الاجتماعية للوسط الذي يعيشون فيه ، فقد وجدنا في تاريخ المغرب يهودا مغاربة
تقلدوا مناصب سامية في الدولة ، حيث كانت رعاية السلاطين تشملهم بصفتهم رعايا و
مواطنين مغاربة ، لهم نفس الحقوق التي لدى غيرهم من المواطنين ، وهو ما نلمسه من
بيان الملك محمد الخامس ، على إثر القوانين التي أصدرتها حكومة فيشي في أكتوبر
1940م/1359هـ ، حيث قال فيه " إن يهود المغرب هم رعيتي و من واجبي حمايتهم ضد
أي اعتداء "[27] . لقد عرفت
وضعية اليهود تغييرات عميقة مع في عهد الحماية ، حيث تقرر حذف الجزية و غيرها من
الضرائب الاستثنائية ، و سقطت إلزامية كل الممارسات التمييزية المتعلقة بالمسكن و
الملبس [28]
، و تجاوز اليهود أسوار ملاحهم ، فهجرت العائلات الميسورة بفاس و الرباط و الدار
البيضاء أحياء الملاح ، لتستقر في الأحياء الجديدة التي شيدها الفرنسيون [29]
.
خلاصة :
تميز المجتمع المغربي عامة و الرباطي خاصة ، بتنوع في
التشكيلة السكانية ، التي تكونت على مدى تاريخه العريق و التي أغنت موروثه الثقافي
و الاجتماعي ، و ساهمت في تمييز المجتمع الرباطي عن غيره ، بخصوصيات ثقافية ،لا
نجدها إلا فيه ، مع التأكيد على أن تأثير هذه التشكيلات السكانية ،لم يكن بنفس
الحدة عند معظمهم ، حيث يغلب على المجتمع الرباطي الطابع الأندلسي خاصة ، و التي
يقول عبد الحفيظ الفاسي عن العناصر
الأندلسية "بأنها زينة البلاد و أعيانها[30]
.
[1] الكتاني (محمد)،" الهوية الثقافية للمغرب
بين ثوابت الماضي و متغيرات الحاضر"، ندوة مستقبل الهوية المغربية أمام
التحديات المعاصرة " ص: 234 و ما بعدها
[2] حقي محمد حقي ( محمد )، البربر في الأندلس دراسة لتاريخ مجموعة إثنية
من الفتح إلى سقوط الخلافة الأموية 92 هـ/711م – 422 هـ / 1031 م ص : 283
[7] احميدة ( محمد ) ، "صورة مدينة الرباط من
خلال رحلة خطوات و خطرات لعبد الحفيظ الفاسي "مجلة مجرة ص : 70
[10]
كمحمد بوكبوط (الممالك الأمازيغية في مواجهة التحديات ) ، عبد الكريم غلاب (قراءة
جديدة في تاريخ المغرب العربي ) ، الحسين السايح ( الحضارة المغربية )، مصطفى أعشى
( جذور مظاهر الحضارة الأمازيغية خلال عصور ما قبل التاريخ )
[11] ابن مرابط ( ابى العلاء محمد المرادي) ،
زواهر الفكر و جواهر الفقر دراسة
وتحقيق أحمد المصباحي ، ، ج1، ص : 228 ،231
[26] أصراف
رابير ، محمد الخامس و اليهود المغاربة
، ترجمة علي الصقلي و
محمد كلزيم ، مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الأولى ، الدار البيضاء ،1997 ، ص : 86
[27] العلوي (زين
العابدين) ، المغرب من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني ،دار ابي
رقراق للطباعة و النشر، د.ط ، الرباط، 2009 ، ج 3، ص : 214
إرسال تعليق