كثيرة
هي الدراسات التي تناولت ضمن ثنايا فصولها ظاهرة الحرْكة بالمغرب خصوص خلال الفترة
المعاصرة، فأسهبت الحديث عن تنقلها والمهام المنوطة بها لاسيما في علاقتها مع
قبائل المغرب خلال القرن التاسع عشر، كما اختلفت وجهات نظر الباحثين حول مهامها
بين من يرى في الحركة وسيلة لممارسة السلطة بشكل مطلق، وبين من يرى فيها أداة سهلت
على المخزن المغربي إمكانية استنزاف خيرات القبائل دون مراعاة لظروفها المعشية.
لكن
الملاحظ من خلال جل هذه الدراسات، أنها أغفلت جانبا مهاما -في اعتقادنا-
يتعلق بما وراء الكواليس -كمصطلح فني يوحي
على ما لم يراه المشاهد- أي أن جلها أغفل الحديث
عن الظروف والإجراءات التي كان يتخذها المخزن للتهيئ لانجاز حرْكاته أو رحلاته،
حيث أن ظاهرة الحرْكة في تاريخ المغرب المعاصر ربما لا يمكن أن تفهم معالمها بوضح بمعزل
عن الحديث عن الإجراءات والظروف التي كانت تسبق انطلاقها بشهور عديدة، حيث كان
السلطان - كما يشير الأستاذ الطيب بياض- " يعد العدّة مبكرا لتحركاته، وإن
ظلت وجهتها ومداها سرا مكنونا إلى آخر لحظة "([1]).
هذه الإجراءات يمكن القول عنها أنها مكثّفة، سخّر خلالها المخزن مختلف أعوانه قصد توفير الظروف الملائمة
لإنجاح تنقل السلطان من مجال إلى آخر.
إذ أن ذالك التنظيم المسْبق للحرْكة، يعبّر عن
حزم المخزن المركزي وذكائه في توفير مختلف الشروط التي من الممكن أن يحتاج إليها
"المسافر" في طريق تتجشمه مجموعة من الصعاب وفي رحلة قد تدوم في ضعنها وإقامتها
شهوراً طوالا قبل الوصول إلى مقصودها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار "الجمهور
الغفير" من المشاركين في الحرْكة، أدركنا أن انطلاقها لا يمكن أن يتم
بالسهولة التي من الممكن أن يتصورها ذهن الإنسان في الفترة الحديثة، على اعتبار أن
ظروف الزمان والمكان تختلف جملة وتفصيلا بين الأمس و اليوم.
فانطلاقا
من هذا الاستهلال، يحق لنا التساؤل
عن الإجراءات و الظروف المرتبطة بالتأهب
للحرْكة السلطانية، ليكن الجواب عبر مراحل اربعة نحاول من خلاها قدر المستطاع
اماطة اللثام عن معظم معالم التحضير والاستعداد للانطلاق الحرْكة بمغرب القرن
التاسع عشر.
1) قبل انطلاق الحرْكة: إجراءات مكثفة يباشر
عملها أعوان المخزن
يبدو أن عملية التأهب للحرْكات السلطانية لم تكن
من السهولة بمكان، لما يتم تسخيره من طاقات بشرية ومادية كبيرة، قصد محاولة إنجاح
هذه العملية وضمان الظروف الملائمة لسير الحرْكة. ولمحاولة التقرب قدر الإمكان من
الملابسات الأولية لهذه الظاهرة التي كان المخزن
يشرع في التحضير لها قبل شهور عديدة من موعد انطلاقها، نورد -في هذا الصدد- نصا مطولا لابن زيدان لأهميته في التعريف ببعض المراحل
الأولى التي تسبق انطلاق الحرْكة، وبعد ذلك نحاول تحليل محتوى هذا النص، استنادا إلى
بعض الدراسات التاريخية التي تمس جوانب الموضوع.
يقول
ابن زيدان: « إذا شاءت الجلالة السلطانية التجول في المملكة أصدرت أولا
الأوامر العالية بتفقد خزانة الكتب وتنظيمها وتعاهد دفاترها بما يلزم من إصلاح
وترتيب، واختيار المباشرين لذلك من أعيان العلماء، وذلك أول إمارة يستدّل بها على
تعلق الإدارة السلطانية بالتنقل والجولان لتفقد أحوال الرعية، ثم تصدر الأوامر
العالية بأثر ذلك للتأهب للسفر وتفقد الشؤون التي يحتاج إليها كل مكلف فيما أنيط
بماموريته وكان له مساس بوظيفه، وكان الشروع في الحرْكة يقع على الترتيب الآتي
[...] :
1)
إصدار
الأمر الشريف للأمين بالشروع في صنع الخزائن والراويات والبراذع.
2)
والكتابة
لأميني مستفاد أزمور والدار البيضاء بتوجيه العدد المعهود من القروش 1500
والشواريات([2])
1500.
3)
والكتابة
لعمال الديارة بتوجيه التلاليس([3])
1000 المعهودة من عندهم.
4)
ثم أخذ
بيان ما تحت يد عمال القبائل من الخيل والبغال والإبل من عند الأمين ابن عبد الله
الرباطي، وبيان ما يقع عليه التوقف من الأنواع الثلاثة للتفريق، فيقسط على أولئك
العمال، ويؤمر كل منهم بتوجيه ما قسط عليه في التاريخ الذي يعيّن لهم بعد تعويض
الضائع وإبدال الراشي.
5)
ثم
إصدار الأمر الشريف للعمال كافة بالتأهب للحرْكة السعيدة والكون على أهبة للنهوض
فيما أمروا به.
6)
ثم
يخرج أفراك([4])
السلطان بالسلامة.
7)
ثم
يؤمر عمال الغرب بالنهوض للربط بالمحل الذي يعيّن لهم.
8)
وبعد
ذلك يؤمر عمال الحوز بالقدوم للحرْكة للربط مع أفراك السلطان حيث يقرب نهوض
السلطان بالسلامة.
9)
ثم
يؤمر كبراء الحناطي (الحرفيين) بالإتيان بتقاييد ما يخصهم من ضروريات عملهم وشغلهم
على العادة، فتدفع لأمين الصائر ويؤمر بقضاء ما فيها ودفع ما لكل حنطة لكبيرها.
10) ثم تكتب المكاتيب الشريفة بتسيير المؤونة للمحلة في الطريق التي يكون
المرور عليها بحول الله.
11)
و
يؤمر أمناء مرسى العدوتين باشتراء عدد من
التبن والشعير ووضعها تحت يدهم بقصد (دواب المحلة).
12) ومحتسب الرباط يشرع في طحن عدد من القمح وادخاره (لوقت الحاجة إليه) ».([5])
انطلاقا من هذا النص، الذي يعبّر عن الإجراءات التي كان يتخذها المولى الحسن الأول خلال « سائر حرْكاته »([6])
، يمكن أن نسجّل - على العموم- ملاحظتين أساسيتين هي:
- ترتيب خزانات الكتب وتنظيمها داخل دار المخزن، من الخطوات الأولى
التي تدل على رغبة السلطان للشروع في الحرْكة.
- إصدار الأوامر السُلطانية لمعظم رجال المخزن بتوفير
كل ما تحتاجه الحرْكة خلال مراحل ضعنها وإقامتها، (المؤونة و التلاليس و الشواريات
وغيرهم).
فهذه الإجراءات العملية التي أصدرها المولى الحسن
لبعض أعوانه المخزنيين، توضح إلى حد بعيد التكاليف الكبيرة التي كانت تتطلبها
عملية تنظيم الحرْكة من المخزن، لضمان الظروف الملائمة طوال مدة تنقلها، حيث كانت
هذه التكاليف لا تقتصر على توفير العدّة والخيل والإبل كوسيلتين لحمل أثقال المخزن
أو كوسيلة للتنقل، وإنما كان المخزن في حاجة كذلك إلى المؤونة للعناصر البشرية
المرافقة للحرْكة و للبهائم. هذه المؤونة غالبا ما كانت القبائل التي تمرّ عليها
الحرْكة مطالبة بأدائها، حيث « كان المخزن لا يفكر كثيرا في مؤونة وصيانة
مجموعات الحرْكة، لأن القبيلة هي التي كانت تدفع المال الكافي لكل فرد/جندي طول
مدة الجندية، حيث كانت كل فرقة تصرف الأموال على عدد من الفرسان والخيول التي بعثت
بها، وقد كان القائد هو خازن وممون مجموعته دون أدنى مراقبة »([7]).
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المدة الطويلة التي قد تستغرقها عملية تنقل الحرْكة،
كتلك التي قادها خليفة السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، (المولى الحسن
الأول) إلى سوس سنة 1280هـ/1863-1864م
والتي دامت حوالي أحد عشر شهرا ([8])،
أدركنا -ولو جزئيا- التكاليف غير الضئيلة
التي قد تتطلبها تنظيم الحرْكة الواحدة خلال السنة، للتنقل من مجال إلى آخرى
مرورا بعدد من القبائل لإدارة شؤون المخزن.
وقبل انطلاق موعد
الحرْكة ، كان المخزن من جملة الأوامر
التي يصدرها إلى بعض أعوانه، هو نصب أفراك أو الفسطاط السلطاني، وما يحيط به من
الأخبية([9])،
وهو ما عبّرت عنه الوثيقة أعلاه بــ « ثم يخرج أفراك السلطان
بالسلامة »، وكان ينصب هذا الأخير خارج ضواحي البلد التي يكون مراد السلطان
المرور عليها، حيث كان يعدُّ لنزول "الجناب العالي" وحاشيته أثناء
تنقلاته وحرْكاته؛ وأفراك كما يعرفه ابن
زيدان هو « عبارة عن فسطاط متسع الدائرة اتخذه الملوك والسلاطين بالمغرب
الأقصى ليمثلوا به ضخامة وأبهة السلطان في الأسفار، يشتمل على فرق عديدة ويكون
بابه دائما للقبلة [...] »([10]).
ويصف الفرنسي " لويس أرنو" شكل هذا الفسطاط وما يحيط به من
خيام الأفراد المشاركين في الحرْكة بقوله : « كان الفراك يضم خيام السلطان
المزينة في أعلاها بالكرات الذهبية والمحاطة بخيام الوزراء والكتاب والموسيقيين،
وكانت خيام المساخرين تشكل حول هذه النقطة الوسطى مربعا مغلقا صعب الاختراق، بداخله
خيول السلطان وبغال الموكب والمدافع، وليس بعيدا عن هذا المكان يتجمع الجنود داخل
خيامهم الجلدية حول خيمة العلاف أو وزير الحرب، كما يوجد طابور عسكر العبيد أقرب
ما يكون إلى المعسكر السلطاني »([11]).
و كثيرا ما كان
الشُروع في نصب الفسطاط السلطاني
يسبق موعد انطلاق الحرْكة بمدّة طويلة شيئا ما، حيث لاحظ أحد الأطباء الفرنسيين ([12])
المرافقين، بل المقرّبين من السلطان المولى الحسن خلال إحدى حرْكاته إلى
تافيلالت سنة 1893م، أن الاستعدادات الأولية لهذه الرحلة رافقها نصب أفراك السلطان
في 24 أبريل 1893م خارج مدينة فاس (التي يوجد بها السلطان)، « بجانب الطريق الذاهب إلى صفرو في
اتجاه الجنوب الشرقي » ، لكنه لاحظ أيضا « أنه مرّ شهر ماي دون أن
يتم انطلاق السفر، تلته حوالي العاشر من شهر يونيو، يبدأ الحديث عنه (السفر) مجددا
»([13]).
حيث انطلقت الحرْكة في مرحلتها الأولى من
فاس إلى عين السمار يوم الخميس 29 يونيو
1893م؛ وبالتالي تكون المدّة الزمنية الفاصلة بين نصب أفراك وانطلاق حرْكة
تافيلالت هي: شهران و خمسة أيام بالتقريب([14]).
فهل هذه المدّة الزمنية تُعزى إلى الوقت و
المجهود الكبير الذي قد تستغرقه عملية نصب الفسطاط السلطاني ؟ أم أن المخزن كان يهيئ
لأشياء أخرى مرتبطة بدورها بعملية التأهب للحرْكة ؟
قد تكون هذه
الاحتمالات كلها واردة، أو تقترب من الجواب، على اعتبار أن عملية نصب أفراك -وكما يلاحظ
من بعض الدراسات- كانت تتطلب من المخزن توفير العديد من المواد والأدوات التي
بدونها يستحيل لربما ضمان مستقر آمن للسلطان ولحاشيته. ومن بين هذه الأدوات؛ يطلعنا
الأستاذ مصطفى الشابي([15])
انطلاقا من إحدى الوثائق المخزنية التي يعود تاريخها إلى النصف الثاني من
القرن التاسع عشر، إلى أن عدد "الفرايكية" الذين شاركوا في نصب أفراك
السلطان([16])،
بلغ عددهم 423 شخصا؛ منهم 91 من الخيالة والباقي من الرماة، و أن نسبهم ينتمي إلى
عبيد البخاري وفرق الكيش. ومن المواد التي كان هؤلاء "الفرايكية" في
حاجة إليها نذكر:
ü 16 وتّداً من الحجم الكبير، يبلغ طول كل واحد منهم مترا واحد، وعرض كل
ضلع من أضلاعه الأربع خمسة سنتيمترات.
ü 16
وتّداً دون الحجم السابق.
ü 540
وتدْ عادي من النوع الذي يعرف بــ "أبري".
ü 20.000
وتدا خشبيا.
ü حاجة هؤلاء "الفرايكية" إلى عدد من جُلود « عجول
البقر، وجلود معزي، وبطاين والقنب الرقيق الفتل، وقنب الخياطة، وشرايط لربط الأحمال
» ([17]).
كما
كانت تستعمل حبال ضخمة لنصب الفسطاط السلطاني، التي غالباً ما كانت تصنع في مدينة
العرائش، والتي لا يقل وزنها عن 80 كيلو« ولا يمكن أن يحمل على البغال أكثر
من اثنين للواحدة »، في حين كانت القبة السلطانية لأفراك تتطلب ما لا يقل
عن 11 بغلا لحملها ([18]).
إن هذه المعطيات الهامة وغيرها التي تتطلبها
عملية نصب أفراك، لعل من جملة ما تحيل عليه هو كثافة المواد والأدوات المستعملة في
تجهيزه، والتي لا يمكن توفيرها -بالنظر إلى الوسائل التقليدية المستعملة آنذاك- إلا
بعد وقت طويل قد يتطلب من المخزن مزيدا من
الانتظار من أجل الحصول عليها. فعملية خياطة الخزائن والأخبية مثلا، -التي كانت
تحيط بالفسطاط السلطاني ويتخذها بعض المرافقين للحرْكة مستقرا لهم- كانت تتطلب من صانعيها
وقتا طويلا لخياطتها، وكان المخزن واعيا بهذا الأمر، لكن شريطة أن يكون العمل متقناً.
« وتخاط خياطة متقنة وأن يحرص على توثيق الغُرْزة وتمكينها، لتجيء في غاية
الصحة والإتقان »([19])،
لهذا السبب كان المخزن يتوصل بهذه المواد عبر دفعات إلى أن يكتمل العدد الذي يرغب
في الحصول عليه.
من هنا يمكن تفسير، الفترة الفاصلة (أكثر من شهرين)
بين نصب أفراك السلطان المولى الحسن الأول وبين عملية الشروع في حرْكاته إلى تافيلالت سنة 1893م، التي كانت من جملة ما أثار انتباه الطبيب الفرنسي "فرناند ليناريس" خلال مرافقته
لهذه الرحلة.
ويمكن
أن نفسّر كذلك - ليس فقط بالاستناد إلى عملية نصب أفراك ، وإنما بتجهيز الحرْكة
بصفة عامة- الخمسة أشهر ونصف تقريبا التي
تطلبتها عملية التحضير لحرْكة السلطان المذكور
إلى مدينتي تطوان وطنجة سنة 1307هـ/ 1889م، أو الفترة الزمنية التي تطلبتها
عملية التهيئ للحملة العسكرية التي استهدفت قبيلة الأعشاش بالشاوية في الفترة
العزيزية.
إن
ما يمكن أن نستخلصه من هذه المعطيات، هو الوقت الطويل الذي كانت تستغرقه عملية
التحضير للحرْكة السلطانية، التي كان الفسطاط السلطاني من بين الإجراءات التي تفرض
على المخزن أخذ الوقت الكافي لتجهيزه، ناهيك عن الإجراءات الأخرى التي يمكن
اعتبارها بالـمكثّفة لما تتطلبه من توفير بعض الأشياء الضرورية (مثل: البغال للتنقل
والتلاليس، والمؤونة وغيرها) لضمان السيْر العادي للحرْكة حتى تصل إلى الوجهة
المزمع الوصول إليها.
هذا، ولم يكن يحضر مراسيم نصب أفراك فقط
المكلفين بهذا الغرض من أعوان المخزن أو ما يعرف بــ"الفرايكية " وغيرهم،
و إنما كذلك « القضاة والعلماء وأعيان الشرفاء والوزراء ورؤساء الجند
والموظفون و أعيان الدولة، وهؤلاء كلهم يباشرون العمل مع الذين يتولون نصبه »([20]).
ورغم متانة وصلابة الفسطاط السلطاني، التي يمكن
أن نلمسها من خلال كل هذه الإجراءات العديدة التي يتطلبها نصب أفراك، إلا أنه مع ذلك
قد لا يصمد لوقت طويل أمام عوادي الطبيعة
(الرياح القوية) حيث يشير "لويس أرنو" في هذا الصدد
إلى أنه « عندما يكون هناك إعصار أو رياح شرقية قوية، تتحرك من
جرائها جوانب الفراك، تستقدم وبسرعة أفواج العبيد، حيث يبقون معلقين على حبال
الفراك طوال مدة هذا الطقس المضطرب، وإذا سقط أو رُفع الفراك، لم يكن من اللائق
لغير المسخرين البيض رؤية مقر إقامة السلطان »([21]).
ومن العادات التي دأبت الدولة العلوية على
تجسيدها ، هو أنه بعد نصب أفراك يتم تنظيم مجموعة من «الطقوس الدينية» التي ارتبطت
أجوائها على ما يبدو ارتباطا وثيقا بنصب الفسطاط السلطاني، ومن بين هذه الطقوس
إصدار الأوامر « للقضاة والعلماء بالمبيت بالفسطاط الشريف ثلاث ليالي أو سبعا
لقراءة ختمات من القرآن وصحيح البخاري [...] وذكر آلاف معدودة معروفة لديهم من
اسمه تعالى (اللطيف) »([22]).و
تكون هذه الأجواء الإيمانية التي يجسد حضورها هؤلاء الأعيان أثناء مدّة مقامهم في
هذا الفسطاط بعد قدوم قواد القبائل و«إخوانهم»، مرفوقة « بالموائد والصلات
والعوائد »([23])
التي يتفضّل بها السلطان عليهم، إكراما لنزولهم ومقامهم بأفراك.
و من
المعلوم، أن الوقت المستغرق في تنظيم الحرْكة لا ينسحب كلّه فقط على عملية نصب
الفسطاط السلطاني، وإنما يدخل ضمنه حتى التحضير لبعض الإجراءات والأعمال الأخرى
التي تتطلبها الحرْكة في سيْرها وتنقلها، وليس فقط في إقامتها واستقرارها، ومن بين
هذه الأعمال التي تتطلب بدورها ضمان الوقت الكافي لتحقيقها، نذكر - على سبيل
المثال- أن السلطان المولى عبد العزيز بدأ في التهيىء لإحدى حملاته العسكرية التي
استهدفت قبيلة الأعشاش بالشاوية، في 12 شوال 1314هـ/ 16 مارس 1897م حيث وجه رسائله
إلى عدد من أمناء أزمور والدار البيضاء في شأن العمل على شراء
"التلاليس" و"الشواريات"، وبعد ذلك أصدر السلطان أوامره إلى
القواد الذين كانت في حوزتهم دواب المخزن (الخيل و البغال و الإبل ) قصد صيانتها
وتفقدّها لتكون في أحسن الأحوال عند حاجة المخزن إليها، ثم بعد ذلك صدرت الأوامر
السُلطانية في الفترة المتراوحة ما بين 2 ذي
القعدة 1314هـ/ 4 أبريل 1897م وفاتح صفر 1315هـ/ 2 أبريل 1897م، إلى قواد الشاوية
والرحامنة وحاحة وزمران وعبدة بتوجيه ما عندهم من البغال، التي قدّر عددها بـ 567
بغلا، ووجّه قواد الشاوية 145 جملا، وقواد
دكالة 126 جملا، كما تم الحصول على 772 جملا من قبائل الغرب والشمال والأطلس
المتوسط هذا من جهة، ومن جهة أخرى أصدر المخزن تعليماته إلى بعض الأمناء قصد اكتيال
كميات من القمح والشعير كمؤونة للحرْكة، وعند حلول 5 ذي القعدة 1314هـ/7 أبريل
1897م كتب المخزن إلى كل العمال الذين يهمهم الأمر بالمشاركة في هذه الحرْكة التي
استهدفت قبيلة الأعشاش.([24])
وبالإضافة
إلى هذه الإجراءات المذكورة، كان المخزن يصدر أوامره إلى بعض أعوانه قبل انطلاق موعد الحرْكة لتفقد معظم
المراحل التي ستقطعها الحرْكة في طريقها للوصول إلى المجال الذي عزمت الانتقال
إليه، وكان يتكلّف بهذا الدور موظف مخزني عرف بالميقاتي .
2)
دور
الـميقـاتيين في رسم وتـفـقد وضعية مسالك
الحرْكة
كان أحد مهندسي الدولة وميقاتيها([25])
يقومون بالتوّجه لمعاينة الطريق
الصالحة التي سوف تمر منها الحرْكة السُلطانية « وتصويرها سهلا وجبلا،
وتقسيم مراحلها مرحلة مرحلة بالساعات والدقائق، وتعيّين الميادين الصالحة للمقام
الكفيلة بالاستراحة، وبيان المواضع التي فيها من الماء ما يكفي »([26])،
وتقدير المسافة التي تفصل بين محل التخييم ومكان وجود الماء. ويبدو أن سهر المخزن
على توفير كل هذه الظروف للحرْكة، كانت لا تقتصر على هذه الأخيرة فقط، بل تهم أيضا
حتى القوافل التجارية، حيث يشير أحد الباحثين في هذا المقام إلى « أن
الاهتمامات التي كانت تشغل بال الرحلات السلطانية كانت هي نفسها تشغل الرحلات التي
كانت تقوم بها القوافل التجارية من الاهتمام بالمسافات ووجود التضاريس الوعرة
والسهول، ووجود مكان للتزود بالماء لسقي الدواب والناس »([27])
ومن الملاحظ، أن المخزن كان يتبع بدقة المراحل
التي كان يقطعها "الميقاتي" لرسم مراحل الطريق التي سيكون مرور الحرْكة
عليها، بل إن هذا "الميقاتي" كان يقدّم تقريراً للمخزن يتضمن كل المراحل
التي قطعها في مجال معين لضبط مراحله ومسالكه، ليرى موقف المخزن من تلك المعلومات
التي قدّمها بين يديه، هذا الأمر يمكن أن نستشفه من إحدى الرسائل الجوابية المؤرخة
بـ 3 ذي القعدة عام 1304هـ/ 1887م والتي جاء فيها ما نصُّه:
« محبنا الأعزين الميقاتين السيد محمد
بن بوسلهام، والسيد الجيلالي بن العربي [...] وبعد، فلا بد امضوا فيما كلفتم به من
اختيار مراحل المرور المولوي، وتقديره على وفق ما شُوفـهْـتُـم به، وتقرر لكم
بيانه وتضمنه التقييد الذي بيدكم، نعم، فالمرحلة المقيدة بآيت عطة، وهي المرحلة
التي بين دمنات وكطيوة قد قيدت بذلك الاسم غلطا وسبق قلم، وإلا فالمراد تقييده هو آيت
مجطق بعد دمنات، لا آيت عطة، وعليه فكشطوا لفظة آيت عطة، وقيدوا مكانها لفظة آيت
مجطق وامضوا فيه على ذلك، ولا بد، وعلى المحبة والسلام »([28])
بل أكثر من ذلك، كان المخزن المركزي يُصْدر
أوامره لقواد القبائل لمساعدة وتقديم العون إلى الميقاتيين قصد تحقيق أهداف المخزن
ومراميه ورسم مختلف مراحل مرور الحرْكة بدّقة،
ولعل من بين الرسائل التي تعبّر عن هذه المسألة رسالة الحاجب أحمد بن موسى لقواد
قبائل زعير المؤرخة في 3 ذي القعدة عام
1304هـ/ 1887م.
« أحبائنا الأرضين قواد المزارْعة والكُفْيَان،[...]
وبعد، فحملته (كذا) الميقاتي والفرايكي، وقائد مئة، ومن معهم من أصحاب سيدنا، عيّنهم
مولانا أيده الله لاختبار الطريق ببلاد زعير، قد شُّوفهُوا بها، فمن وصلوه منكم
فليعيّن لهم من إخوانه من يرافقهم، ويعرّفهم بالطريق التي تعلق بها الغرض الشريف،
ويدّلهم على مياهها وغير ذلك، واستوصوا بهم خيرا، وبروا بهم، ولا بد، وعلى المحبة
والسلام »([29]).
ولم يكن دور الـميقاتي ينتهي بتقديمه لرسم مفصّل للمسالك التي ستمر بها الحرْكة، وإنما كان عليه القيام
بمهمة أخرى عند انطلاقها؛ وهي ضبط سير الحرْكة بتوقيتها، ومناطق تخييمها ([30]).
من هذا يتضح، أن المخزن كان على بيّنة كبيرة – انطلاقا من هذه
الإجراءات- بمختلف المراحل التي ستقطعها الحرْكة للوصول إلى وجهتها المحدّدة. وما
زاد من أهمية هذه الإجراءات المخزنية هو أن السلطان كان يعمل قبل انطلاق الحرْكة من مجال إلى آخر،
على مراسلة رجال المخزن المستقرين بالمجال المزمع التوجه إليه، وإخبارهم بمختلف
الظروف و المراحل التي ستقطعها الحرْكة للوصول إليهم. ففي هذا الصدد تُعبّر رسالة
المولى الحسن إلى عامل فاس أبي العلاء إدريس
السراج التي راسله بها خلال إحدى حرْكاته
الأولى التي انطلقت من مراكش في اتجاه فاس والمؤرخة في 4 رمضان 1290هـ/1873م
على ما يلي :
« خديمنا الأرضى الطالب إدريس السراج، أعانك الله وسلام عليك ورحمة
الله تعالى وبركاته، وبعد، فإنا كنا قفلنا من حركتنا السعيدة بحاحا وحللنا هذه
الحضرة المراكشية، [...] كان المراد إذ ذاك أن ننهض (من مراكش) في محلتنا المنصورة
وجيوشنا الموفورة لناحية الغرب من غير مهلة، ثم اقتضت المصلحة المكث في هذه الحضرة
أياما لترتيب أمورها، وإصلاح شؤونها، وتسكين قبائلها،[...] وقد يسّر الله جميع ما
نويناه ورتبنا جميع ما ذكر بحمد الله،[...] ووجّهنا حينئذ بعون الله الوجهة لناحية
الغرب،[...] وخيمنا بمحلتنا السعيدة بزاوية ابن الساسي؛ والأحوال بحمد الله صالحة،
ونعم الله غادية ورائحة. ونيتنا إن شاء الله المرور على الطريق التي ورد عليها
الوالد [...] هذه المرة الأخيرة على طريق تادلا، ومنها لورديغة، ثم بني زمور، ثم
السماعلة، ومنها لزعير ومنها بحول الله لزمور، ومنها لمكناس إنشاء الله بحوله
وقوته، وأعلمناكم لتشكروا نعمة المولى، وتشاركوا في حمده جل وعلا [...] »([31]).
وفي هذا الصدد، تفيدنا كذلك بعض الدراسات
التاريخية بمعلومات هامة، ذلك أنه قبيل وصول المولى الحسن الأول في إحدى حرْكاته
"السلمية" التي انطلقت من فاس إلى
تطوان، و التي حلّت برحابها سنة 1307هـ/1889م.
« أن عددا من رؤساء القبائل وفدوا على تطوان بخيولهم وجيوشهم قبل موعد
الزيارة السلطانية بنحو ثلاثة أشهر، وأنهم كانوا أثناء إقامتهم بأحواز تطوان
يتسابقون على ظهور خيلهم، وكان عدد هم كثير » ([32]).
كما
تفيدنا هذه الدراسات، بأن السلطان المولى الحسن وقبل انطلاق حرْكته من فاس إلى
تافيلالت سنة 1893م طالب السلطات الفرنسية والاسبانية والانجليزية بأن « تأمر
ممثيلها العسكريين الملحقين لديه لكي يتوجهوا إلى مراكش لينتظروا إلى حين وصوله
هناك، لأن الحج إلى تافيلالت - يقول ليناريس- يتطلب إبعاد العنصر المسيحي مؤقتا عن
حاشية السلطان »([33]).
وبعد
أن يتم توفير كل شروط السفر وتهيئ كل الظروف الملائمة لانطلاق الحرْكة، كان
السلطان قبل يوم واحد على انطلاق حرْكته، يُصدر أوامره إلى كل النخب المخزنية
المقربة منه (الشرفاء و العلماء و الأعيان
وغيرهم) بقصد القدوم عليه في اليوم المخصص لهذا السفر من أجل توْديعه « فإذا
بزغت شمس اليوم المعيّن للسفر ورد الناس على القصر الأمامي وتخرج جميع الأثقال
المولوية، [...] وبعد وداع الجلالة من بداخل القصر ومن بخارجه، [...] يخرج الأشراف
والقضاة وأعيان العلماء وعامل البلد وسائر الموظفين والوجهاء ويصطفون بباب القصر
إلى أن يمر الجناب العالي »([34]).
وهكذا، على هذا المنوال كان السلاطين - على ما
يبدو- ينطلقون في المراحل الأولى من حرْكاتهم.
3) أثـنـاء الـحـرْكـة:
من
المفيد الإشارة أولا، إلى أن شروع السلاطين في تنظيم الحرْكات غالباً ما كان يتم
ابتداء من فصل الربيع، وينتهي في غالب الأحيان مع حلول فصل الخريف أو بعد مرور الأسابيع
الأولى منه([35])،
أما فصل الشتاء فيرى "فرناند ليناريس" أن السلطان الحسن الأول كان يقيم
خلاله في إحدى العواصم الثلاث (فاس أو
مكناس أو مراكش) منشغلا بحلّ المشاكل المتعلقة بالدول الأوربية فيما يتعلق
بالميدان التجاري، وبسبب الحوادث التي كانت تقع على الحدود مع الجارة الجزائر([36]).لكن
هذا لا يعني توقف الحرْكات عن القيام بوظائفها في فصل الشتاء، فكثيرا ما خاض
السلطان المذكور حملات عسكرية خلال هذا الفصل([37]).
أما
فيما يتعلق بالنظام الأمني لانطلاق الحرْكة، فيبدو أن القبائل كانت تلعب دورا
كبيرا في ضمانه، حيث يشير لويس أرنو أنه في العادة « عند عبور أراضي القبائل الثائرة تتكلف
وحدات القبائل بأخذ القيادة من أجل إجلاء كل المخاطر على جوانب المحلة، لكن عندما
يخاف من المفاجآت من الخلف خاصة من القبائل البربرية، تعطى الأوامر لهذه الوحدات (القبلية)
بالرجوع إلى الخلف، وعندما تكون هناك حرب ما فإنهم يكونون دائما في الصفوف الأمامية
»([38]).
وفي أثناء سير الحرْكة، كان الموكب السلطاني ينطلق وفق ترتيب معين حيث كان السلطان
يتوسط أفراد حاشيته « تحت مضلّته وموسيقيين الذين يغنون خلال الثلاث ساعات
من الرحلة، وكانت أسلحة السلطان في طريق سير الحرْكة قريبة منه، وخلفه يوجد الحاجب
والوزراء والكتاب فوق البغال، والرماة بمدافعهم وأفواج باقي المسخرين مشكلين بذلك
حزاما أمنيا للموكب»([39]).
وعندما كانت تمر الحرْكة بمجموعة من القبائل، كان
يتعيّن على المخزن القيام بجملة من الوظائف المتمثلة عادة في استخلاص الضرائب أو
فض المنازعات التي قد تنشأ بين أفراد المجال القبلي، حيث يشير صاحب "الإتحاف" في هذا المقام بأنه
إذا « كان للجناب السلطاني غرض في قبيلة
من القبائل التي يكون المرور عليها
أو معهم كلام في واجب ونحوه، فتتقدم إليها سرية من الجند والعسكر وبعض القبائل »([40])،
صحبة واحد من « إخوان سيدنا المنصور بالله » في محلة للشروع في
مباشرة الغرض([41])
الذي تقدمت المحلة من أجله. كما يخبرنا ابن زيدان؛ في هذا الصدد بالتنظيم الذي
كانت تلجأ إليه الحرْكة عندما كان يتعلق الأمر بمجالين مختلفين وجب النظر في أمورهما « وإن كان الكلام بموضعين فتتقدم
إليهما محلتان » ([42]).
وبالتالي فإن الحرْكة أثناء سيْرها كانت لا
تكتفي بقطع أدراج الطريق، وإنما كانت تقوم كذلك بمجموعة من الوظائف التي كانت
تتطلب على ما يبدو لقاء مباشرا بين السلطان ومحكوميه، ومن هذا المنطلق لم تكن الحرْكة
-كما يرى الأستاذ محمد أعفيف- « مجرد سفر عادي للسلطان أو حملة عسكرية، بل
هي تعدت هذا وذالك، وأصبحت وسيلة لمعاينة أمور عديدة »([43]).
وهذا الأمر المتعلق بممارسة السلطة خارج المجال المخصص لها (العاصمة) نجده يتطابق أيضا مع ما أشار إليه صاحب "العز والصولة" بقوله: « شأن
الجلالة السلطانية في الأشغال الإدارية والخصوصية في الحصْر، هو شأنه في السفر
غالبا »([44]).
هذا،
وقد كان السلطان في طريقه، -فضلا عن إدارة أمور القبائل وقبض الواجبات- يزور
العديد من الأضرحة القريبة من المجال الذي يكون المرور عليه وذلك للتبرك بأصحابها، ففي طريقه إلى تطوان عبر
الشاون زار السلطان المولى الحسن الأول « الشيخ الصالح سيدي علي شقور،
وتحدث معه وتبرك به، ثم قصد ضريح شيخ الجبل وأستاذ الشيوخ وجد الأشراف؛ الشيخ
مولانا عبد السلام بن مشيش »([45]).
وفي الغالب ما كانت هذه الزيارات تتم بعد صلاة الجمعة أو تتزامن معها، كما كان السلاطين
يحرصون في حرْكاتهم خلال المراحل التي
سيقطعونها بالوقوف عند أهم الأماكن التي كان أسلافهم يمرون بها في حرْكاتهم قصد
التبرك بها، و إحياء لذكرى أجدادهم، فقد فضل السلطان المولى الحسن - مثلا- في تلك
الحرْكة التي قادته إلى تافيلالت بالتوقف « بتومليلت بدلا من بو أغرار إحياء
لذكرى السلطان مولاي سليمان الذي كان توقف بها أثناء قدومه من فاس نحو تافيلالت »([46]).
وقد ساهمت زيارات السلاطين لبعض هذه المواقع التي كانوا يتوقفون بها خلال
حرْكاتهم، في ميلاد –و كما يرى الأستاذ محمد حمام- العديد من أسماء الأماكن بمختلف
المناطق المغربية؛ مثل الموقع الذي أصبح يعرف بــ « لـمحلت أو تيـزي نـمولاي
الحسن »([47])
نسبة إلى ذكرى توقف السلطان المولى الحسن بهذا المكان خلال إحدى حرْكاته. أو كتلك التي أصبحت تعرف بـ: "عيون السلطان" أو "عركوب
السلطان" أو "عركوب المحلة" على إثر التنقلات المستمرة للسلطان
المولى الحسن بين شمال
بلاد
زعير وجنوبها ([48]).
4) وصول حركة السلطان للمجال الـمـقصود وطقوس استقبالها.
نستفيد من بعض الكتابات التاريخية عدة
إشارات تفيد؛ أنه عند اقتراب السلطان من المجال الذي عزم السفر إليه، و أصبح لا يفصل
بين هذا المجال وبين الموكب السلطاني إلا مراحل قليلة « تصدر الأوامر العالية لعامل
البلد ومن جرت العادة لإعلامهم بذلك، فينادى في عموم الأسواق لإشعار العامة
والخاصة ليكون الجميع على أهبة »([49]).
وفي نفس الوقت يخرج بعض أعيان البلد
ووجهائها لملاقاة السلطان في مخيمه خارج البلد المزمع التوجه إليه، حيث يستقبلهم
السلطان ويجري معهم محادثات من جملة ما تتناوله هو السؤال عن أحوالهم وأحوال بلدهم
التجارية والاقتصادية، وفي أثناء ذلك « يفاض عليهم من الكرم والإحسان ما
يطلق ألسنتهم بالثناء ويطمن أفئدتهم في صدق الولاء »، وبعد ذلك فمن هؤلاء
الوفد من يقْفل راجعا إلى موطنه « ومنهم من يقيم في الضيافة السلطانية إلى
اليوم المعين لدخول البلد، فإذا كانت صبيحة ذلك اليوم خرج الناس على اختلاف
طبقاتهم زرافات ووحدانا لاقتبال ورود جلال السلطان »([50]).
وفي
هذا الصدد نلمس من زيارة المولى الحسن الأول لتطوان سنة 1307هـ/1889م آثار
الاحتفالات الكبيرة التي أقامها أهل هذا البلد على شرف الزيارة السلطانية لبلدهم، كما
نستشف العادات والتنظيمات التي كان يُستقبل بها السلاطين عند قدومهم على مجال
معين.« وقضى أهالي تطوان الليلة التي سيدخل السلطان المدينة في صبيحتها أيقاظا،
فرحا بزيارة السلطان واستعدادا للقاه،[...] ( وفي صباح ذلك اليوم) خرجت تطوان
بأسرها لاستقبال السلطان المحبوب، [...] وماج الناس بعضهم في بعض، ثم نظمت المواكب
ورتبت الصفوف وقصد الجميع طريق السلطان، وقد تواردت الوفود من القبائل المحيطة
بتطوان، ودقت الطبول، وارتفعت الأصوات بالأذكار والدعوات، وعلت البنادق والمكاحل
فوق الكواهل، (وبعد استقبال السلطان) ولى الجميع وجهه شطر تطوان وقد صدحت الموسيقى
السلطانية، [...] ثم تقاصفت رعود المدافع من كل برج فرحا بأمير المؤمنين، وتكهرب الجو،
وغمرت الناس من الفرح موجات »([51]).
وكان السلطان بعد أن يقيم بضعة أيام في
البلد الذي حلّ برحابه، وبعد أن يصدّر رسائله لمختلف أقطار البلاد يبلغهم بأطوار
السفر وبحلوله بالمكان الذي عزم التوجه إليه، كان يأمر عمال البلد الذي حلّ به وأعيانها
بقصد التأهب لزيارة «المشاهير من صلحاء البلد»، حيث يخرج السلطان في موكبه الملوكي
رفقة حاشيته « وكل ضريح حلّ به يضع في صندوق التبرعات دراهم معدودة، ويتفضّل
سموه على الضعفاء والمعوزين الملتجئين لذلك الضريح بدفع رؤوس من البقر تفرق لحومها
بينهم سعيا في تنشيطهم وإدخال السرور عليهم »([52]).
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن
السلاطين كانوا - على ما يبدو- خلال تنقلاتهم لا يكتفون فقط بالنظر في الأحوال المتعلقة
بسياسة البلد الداخلية، وإنما أيضا قد يخصصون بعض أوقاتهم خلال زيارتهم لمنطقة ما لاستقبال
بعض سفراء الدول الأجانب المقيمين بذلك البلد أو بغيره، قصد تسوية بعض الأمور
المتعلقة بسياسة البلد الخارجية. ففي زيارة المولى الحسن الأول لتطوان خصص هذا
السلطان « أوقاتا لاستقبال وجوه الناس بصفة خاصة، وقد وفد على تطوان سفيرا
ايطاليا وبلجيكا، فاستقبل السلطان كل واحد منهما استقبالا رسميا بساحة الفدان،
[...] (حيث قدم هذين السفيرين ) للسلطان أوراق اعتمادها في هذين الاستقبالين،[...]
حتى إذا ما قابلاه في طنجة مع بقية السفراء الأجانب، كانا معروفين مقبولين كغيرهما
من سفراء الدول »([53]).
يمكن القول انطلاقا مما سبق، أن إجراءات تنظيم
الحرْكة (التي كانت القبائل تساهم فيها بشكل كبير)، كانت تتطلب من المخزن تسخير
طاقات مادية وبشرية هائلة، لتحقيق رحلة أو سفر من مجال إلى آخر تتجشمه مجموعة من
الصعوبات. وأن هذه الرحلة (الحرْكة) كانت تحمل في طياتها مجموعة من الأهداف التي سطّر
المخزن خطوطها العريضة قبل شروعه في تنظيمها، وأن التنظيم الذي كانت تسير عليه حرْكات سلاطين القرن التاسع
عشر، ليعبّر في الحقيقة عن جهاز (حكومي) متنقل
و متكامل الوظائف([54])؛
يستخلص الضرائب ويفضّ النزاع، ويحافظ على استمرارية الفكر الزواياتي المتمثل في التبرك بالأضرحة القريبة من مناطق
سير الحرْكة وزيارة الأولياء، وفي نفس
الوقت تحقيق اللقاء المباشر مع الرعية، وما لهذا اللقاء -كما يرى الأستاذ
عبد الرحمان المودن- من دور هام في « الحفاظ على الوشائج الهشة التي تشدّ
حياة محلية ما تزال قوية الانسجام، إلى نظام مركزي عليه أن يجدد استقراره بكيفية
مستمّرة عن طريق التنقل »([55]).
إعداد: محمد
العزوزي
طالب باحث بكلية
الآداب- فاس
*هذه الدراسة في
الأصل جزء من البحث الذي اشتغلت عليه برحاب جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية
الآداب والعلوم الإنسانية فاس- سايس، تحت إشراف الأستاذة فاطمة نافع لنيل شهادة
الإجازة في مسلك التاريخ والحضارة.
([1]) الطيب
بياض، المخزن والضريبة والاستعمار ضريبة الترتيب 1880-1915، أفريقيا الشرق،
2011، ص:155.
([15]) مصطفى
الشابي، الجيش المغربي في القرن التاسع
عشر 1830-1912م، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط، 1، 2008م، ج،2.
ج،2،
صص:181-182.
([16]) لا
نستطيع تحديد السلطان الذي يتعلق به الأمر هنا، لسبب يتمثل -حسب الأستاذ مصطفى
الشابي- في خلو الوثيقة المخزنية التي اعتمد عليها من الإشارة لأي تاريخ محدّد
يساعد على معرفة اسم السلطان، لكن الكاتب يرجّح - ولاعتبارات علمية- أن الوثيقة
تعود إلى « السنوات الأخيرة لعهد
السلطان سيدي محمد أو السنتين الأوليين لعهد المولى الحسن ».
([25]) المقاتيين (ج. ميقاتي): وهم
أعوانٌ بالقصر الملكي كانوا مكلفين بضبط أوقات الصلاة وتقديم حصة وقتها إلى
السلطان، كما كان الميقاتي يخرج عندما يزمع السلطان على
السفر، لضبط ساعات السير التي بين كل مرحلة من مراحل الطريق، وضبط مواضع الماء
الكافي للمحلة التي يتم المرور عليها، ثم في نهاية استقصائه يقدم للحضرة السلطانية
تقييدا بالبيانات التي توصل إليها. وذلك ليكون السلطان « على بصيرة من عدد الساعات
والدقائق التي يقطع في مدة السفر من أولها إلى آخرها »؛ عبد الرحمان ابن
زيدان، العز والصولة في معالم نظم الدولة، م.س، ج،1 ،ص:139.
([41]) عبد
الرحمان ابن زيدان، العز والصولة في معالم نظم الدولة، م.س، ج.1، ص:191.
هذه العملية كانت تتم عبر تقّدم جزء من أفراد الحرْكة (جيش و قواد و أعيان
القبائل) في محلة إلى قبيلة معينة لمباشرة
شؤونها، بينما يستمر الجزء الآخر من الحركة في مواصلة طريقه رفقة السلطان في
الغالب، حتى يتمكن هذا الأخير من الالتحاق بالجزء الأول من المحلة. « وحيث
يصل إليهم سيدنا المنصور بالله بمحلته المظفرة فتكون تلك المحلة تتقدم أمامه
بمرحلة أو مرحلتين كالطليعة للمحلة المنصورة ».
([54]) هذه
الأدوار التي كان يضطلع بها السلاطين
العلويون خلال تنقلاتهم، يرى أحد الباحثين الأجانب أنها كانت إما للتنقل
بين (عواصم) البلاد قصد تحقيق أهداف تنظيمية، أو
أهداف زجرية ، وذلك من خلال قمع بعض القبائل المتمردة، وبالتالي فإن من سمات
هذه التنقلات -كما يرى- كونها تعبر
عن وسيلة تحكيمية كان يضطلع بها المخزن المركزي.
-
Nicolas MICHEL,
"L’approvisionnement de la
Mhalla au Maroc au 19 siècle", in
revue Hisperis-Tamuda, 1991 , Vol, 29, P : 313.
إرسال تعليق