لقد كانت
معركة وادي وادي المخازن بمثابة معيار مهم لإمكانات التوغل الإسبانية داخل الأراضي
المغربية. فملك إسبانيا فليب الثاني كان على بينة تامة من كافة العناصر التي تسمح
له بتقييم القوات المغربية تقييما موضوعيا، سواء تعلق الأمر بالقوات التي يمكن أن
نعتبرها نظامية أو بتلك التي تستنفر عند الحاجة وفي حالات الأزمة. من هنا نفهم
انشغاله الكبير بالمغامرة التي ينوي ركوبها، ثم ركبها ابن أخته الملك سبستيان بعد
ذلك. فهو كان يعارض هذه الغامرة. وبعدما وصله خبر الهزيمة، كتب قائلا: "لقد
حدث ما كنا نخشاه من ملك البرتغال"([1][1]).
هكذا إذن سنجد تحفظات عند فليب الثاني
قبل المعركة المذكورة للدخول في مغامرة مغربية، فما بالك بعدها؟ بعد هزيمة
البرتغال ستكون المبررات أكبر لتلافي أي مواجهة مع جيرانه في الجنوب. ولكن كانت
تأتيه مشاكل كثيرة من المغرب كان عليه أن يبت فيها بشكل من الأشكال، ولم تكن هذه
المشاكل من صنع المغرب دائما بل كانت نتيجة وجود قواعد مغربية يستعملها غير
المغاربة (القارصنة والمورسكيون وغيرهم) للتصدي للسفن الإسبانية المبحرة في المحيط
الأطلسي.
لقد حاول فليب الثاني أن يجد حلولا
متفاوضا عليها مع المغاربة من أجل وضع حد لحركة القرصنة التي كانت تنطلق من مرسى العرائش
والتي كانت هي الشغل الشاغل لهذا الملك. من هنا سيأتي إذن اقتراح مبكر يذهب في
اتجاه مقايضة العرائش بالبريجة (Mazagan).
لقد كان الحصول على العرائش هاجسا عند
فليب الثاني لا يفارقه حتى أنه اعتبر العرائش وحدها تساوي إفريقيا كلها. فأمام هذا
الانشغال الاستراتيجي، كان الملك الإسباني يتحمل كل الإبطاءات والتأجيلات التي كان
يواجهه بها أحمد المنصور في الوفاء بوعده بتسليمه المرسى المذكور. لقد كان المنصور
بطبيعة الحال يرى في القيام بهذه العملية نوعا من الانتحار السياسي. لذلك سنرى أن
استراتيجية المنصور كانت ترتكز على إبقاء الوعود([2][2]) مع التأجيل المستمر في تنفيذها
وإقناع الملك الإسباني في الوقت نفسه بالقيام بكافة الإجراءات من أجل صيانة المغرب
من قبضة الأتراك.
كان فليب الثاني، بالرغم من شعوره بكل ما
قلناه سابقا، يفضل القنوات الدبلوماسية عبر الأب مرين (Padre Marin) وبيرو بنيغاش (Pero Vanegas) وآخرين لإبلاغ كل تطلعاته إلى
أحمد المنصور. وأنطونيو دا شالدانيا([3][3]) (Antonio de
Saldanha) الذي عاش لمدة
طويلة قريبا من مسار هذه المفاوضات التي كانت تتوخى التسليم المنشود من قبل
الإسبان، يقدم لنا شهادات كثيرة تؤكد ما نحن بصدده هنا.
فعندما كان الخطر التركي يلوح في الأفق
أمام أحمد المنصور، كان هذا الأخير يتوجه إلى فليب الثاني ليقترح عليه التحالف.
يقول لنا أ. دا شالدانيا:
... أرسل الأب مرين إلى لشبونة حيث كان
يوجد الملك فليب وطلب منه أن يبلغه استعداده لخوض غمار مخاطر الحرب قبل أن يستأنف
السلام مع الأتراك، ويذكره بأن أهم مسرح للحرب هو في البحر وأن الهدف هو العرائش.
لذلك كان يجدر بالملك فليب أن يكثر من قواته حتى لا يجرؤ التركي على المجيء، لأن
كليهما كان معرضا للخطر نفسه... ([4][4])
كان كل من الإسبان والأتراك يتطلعون إلى
الاستيلاء على العرائش. ففي سنة 1581م يصل إلى المنصور خبر من الجزائر مفاده أن
علي باشا كان يجهز ستين سفينة (galera) للوصول بها إلى مضيق جبل طارق والاستيلاء على العرائش إذا امتنع
المنصور عن تسليمها إياه، وبعد ذلك سيجتاح شواطئ إسبانيا([5][5]).
لقد كان لتسليم العرائش للإسبان مقابل
آخر عند المنصور يتمثل في احتجاز مولاي الشيخ ومولاي الناصر داخل إسبانيا، وقد
كانا يطالبان بالعرش المغربي. فعندما كانت للملك الإسباني آمال للحصول على مدينة
أحلامه، كان يبعث بأخبار مطمئنة عن وضعية هذين الشخصين إلى المنصور. فقد أبلغه عبر
الأب مرين:
... إن مولاي الشيخ يحاول أن يدخل الدين
المسيحي (...) وإن مولاي الناصر سيحول من لشبونة إلى قشتالة وسيحبس في مكان بعيد
عن البحر، بحيث لن يضرن "الشريف" في شيء. ولكن [على المنصور] أن يحاول
تسليم العرائش لجلالته، لأنه بهذا ستحبط كل مشاريع الأتراك وستتوطد الصداقة بين
صاحب الجلالة الملك فليب والشريف…([6][6])
بطبيعة الحال، وكما قلنا سابقا، فأحمد
المنصور لن يقول إنه لا يسلم العرائش، ولكنه لن يسلمها أبدا. فسياسته في هذا
الموضوع اتخذت طريق التسويف والبحث المستمر عن مبررات لتأخير تسليم([7][7]) هذا المكان، حتى مل الملك فليب
الثاني واستبدت به خيبة الأمل، فقرر السماح بالنزول في مليلية لأكبر عدو يخافه
المنصور. ولكن قبل ذلك،
… شرع الملك فليب في سنة 1586م في الإصرار بشكل كبير على تسليمه
العرائش، الأمر الذي كان يقابله الشريف السعدي بدهائه. وكما صرح بلتسار بولو (Baltasar
Polo) للأب مرين،
فإن إسبانيا كانت تنتظر بفارغ الصبر خلال شهر ماي، وهو الوقت الذي اعتبر، حسب ما
فهم من الأب مرين، موعدا لهذا التسليم مقابل البريجة(…). Francisco da Costa قد كتب إلى الملك فليب الثاني في موضوع العرائش، أنه كان يعتبر
أمر تسليم العرائش من قبل الشريف السعدي بمثابة سخرية لا يجب أن تحمل على محمل
الجد، لأنه لم يسلمها عندما كانت تفتقر إلى التحصين والدفاع وكان يتخوف من
احتلالها من قبل الأتراك، فكيف سيفعل ذلك الآن بعد تحصينها كما يجب؟
وأخيرا، خرج الأب مرين من مراكش وكله
أمل. غير أنه مرض في الطريق ومات واصطحب معه إلى الحياة الأخرى كل الاتفاقات
المزعومة حول تسليم العرائش([8][8]).
كان على فليب الثاني أن يخفي غيظه
المتنامي من جراء الإحباط الذي كان يستولي عليه بسب عدم وفاء المنصور بوعده. وكان
عليه أن يخفي كل ذلك، لأن رغبته في الاستيلاء على العرائش كانت كبيرة جدا. فأمام
هذه الوضعية، كان الملك الإسباني يبعث بتلميحات إلى المنصور يفهمه منها أن إمكان
السماح لمعارضه بالنزول في المغرب أمر وارد في الوقت نفسه يوصل إليه عبر بلتسار
بولو محاسن تسليم العرائش([9][9]).
لقد كان تقرب المنصور إلى ملكة إنجلترا
على أثر هزيمة الأسطول الإسباني Armada Invencible أمام الإنجليز بالإضافة إلى مسألة العرائش، مبررا لإنزال مولاي
الناصر في المغرب وتحولا في سياسة المنصور تجاه الملك الإسباني. سنلاحظ حدوث
هجومات من قبل ست سفن للنصور على لنثرتا (Lanzarote) وفوارتا بانتور (Fuerteventura) سنة 1593م. وقد أسفرت هذه الهجومات عن غنائم وسبي في الجانب
الإسباني([10][10]).
وبالرغم من التحول السالف الذكر والذي
لاحظنا في نطاقه رد فعل من الجانبين، لا نظن أن العلاقات بين الملكين ستتدهور
أكثر؛ بل بالعكس، إننا نعتقد أن تبادل رسائل المجاملة سيستمر بين الملكين حتى في
الحالات الأكثر تأزما، كما يمكن أن نتبين ذلك من خلال رسالة([11][11]) أحمد المنصور المؤرخة في 6 ذي القعدة
1003هـ والتي نفهم منها وجود نوع من الإخبار برجوع مولاي الناصر إلى المغرب أو
التبرير لهذا الرجوع من قبل ملك إسبانيا. يقول أحمد المنصور بعد مقدمة المجاملة التي
عودنا عليها في كل الأحوال:
… هذا، وقد وصلنا كتابك، فقابلناه على عادتنا في كتبك الواردة إلينا
بوجه البشر والترحيب وأحللناه من اهتمامنا واهتبالنا بالمحل الفسيح والمكان الرحيب
وطالعنا ما ذكرتم عن ولد أخينا الخارج بمليلية وعن أسباب خروجه وحتى خديمكم بلتزار
بول ذكر لنا ما أمرتموه أن يبثه علينا وينهيه إلينا. وإلى هذا، فها نحن أجبناه عن
ذلك مشافهة وكلمناه بما عندنا مواجهة، ومن عنده إن شاء الله تتلقون ما لدينا
وتقفون على ما عندنا وما وصل به كتابكم الآخر على مسألة ولد صاحب طنجة ومن معه هنا
عندنا من أصحاب الفضالغوش…
إذا كان هذا هو الوجه الذي أراد المنصور
أن يظهر به أمام غريمه أو صديقه أو خصمه فليب الثاني، فحالته النفسية الحقيقية عند
وصوله خبر دخول المغرب من قبل الناصر تختلف تماما عما يمكن أن يستنتج من الرسالة
المذكورة. وقد كان من حظنا أن وجدنا وصفا في كتاب سلدانيا للحالة التي كان عليها
أحمد المنصور عندما وصله خبر الناصر وقد جاز إلى المغرب. يقول سلدانيا:
إذا كان الشريف السعدي يجامل كل هذه
المجاملة، فلأنه كان يعرف أن قضية مولاي الناصر كانت متقدمة جدا ولم يعد يطلب من
صاحب الجلالة إلا أن يخرجه إلى حجرة بادس لأن في جبل دبدو كان له هناك مرابطي
تجمعه به صداقة كبرى(…). كانت الأمور على هذه الحالة، وقبل أن يسلم جوابه للفارس
الطنجاوي، عندما أخبر الشريف (السعدي) من قبل ابنه مولاي الشيخ بأن الناصر كان قد
وصل إلى المغرب بالضبط إلى مليلية. ومن دون أن ينتظر ساعة واحدة، أمر بقرع طبله
الأكبر إعلانا بخروج الملك إلى الحرب وأخرج محلته في اليوم نفسه وذهب ليقضي الليلة
تحت خيمته صحبة علوجه وعائلته فقط دون أن يكشف عن أسباب هذا التحول المفاجئ([12][12]).
هكذا ستسير الأمور بين الملكين. فإلى
حدود سنة 1602م، سيستمر الإسبانيون في اتخاذ نوع من الحذر والاحتراس في سياستهم
تجاه أحمد المنصور الذي لم يكن يبين أي عداء واضح للإسبانيين. فعلى أساس تخوف لدى
الجانب الإسباني من إمكان هجوم المنصور على بعض النقط التي كانوا يحتلونها على
الشواطئ المغربية، وذلك عندما كان المنصور يقود جيشا من خمسين ألف رجل في اتجاه
فاس ليحارب ابنه وولي عهده. وبعد ما رأى الإسبانيون أن هدف المنصور هو الذي أشرنا
إليه وأن تخوفاتهم لم تكن ترتكز على أسس معقولة ولم يعرج المنصور على قاعدة من
قواعد صاحب الجلالة في المغرب وأن حساباتهم كانت خاطئة، راجعوا موقفهم. فهم كانوا
يعرفون "… أنه ليس صديقا، ولكنه لم يصرح قط بعداوته للإسبانيين"([13][13]).
وستسلم العرائش للإسبانيين كما يعرف
الجميع، ولكن لن يكون أحمد المنصور هو المسلم ولا فليب الثاني هو المسلم إليه، بل
سيتنازل عنها ابنه محمد الشيخ المامون لفليب الثالث ابن فليب الثاني، وذلك سنة
1610م بعد مفارضات طويلة وعسيرة توسط فيها المغامر الجنوي جينتينو مرتارا (Gianettino
Mortara). والكل يعرف
الملابسات التي أحاطت بتسليم هذا المرسى إلى الإسبانيين ومآل الشيخ المامون بعد
هذا الحدث بسنوات قليلة. ونود هنا أن نشير إلى مسألة ربما لم يقع الاهتمام بها بما
فيه الكفاية لارتباطها بموضوع الاستراتيجية التي نحاول تحليلها في هذه المناسبة.
وقد تزامنت الظرفية التي سبقت تسليم العرائش بوقت قليل مع قرار طرد المورسكيين من
الأندلس ومع تواجد الشيخ المامون في إسبانيا التي كان قد التجأ إليها على أثر
الهزيمة التي لحقت ابنه عبد الله أمام زيدان يوم 27 يناير 1609م بجوار نهر أبي
رقراق([14][14]). وستطرح مسألة متابعة طرد المورسكيين
أو تفضيل احتلال العرائش، في الوقت الذي كان الشيخ المانون يتأهب فيه للرجوع إلى
المغرب للوفاء بوعده بتسليم العرائش وسط الشكوك التي كانت تحوم حول الطريقة التي
كان سيستقبله بها ابنه عبد الله (الذي كان ينظر إلى قضية العرائش من زاوية تختلف
عن تلك التي كان ينظر منها أبوه)، وكذلك وسط تقويم الإمكانات الإسبانية الحقيقية
لإنجاز العمليتين المعقدتين والصعبتين في آن واحد. ويظهر أن محضر اجتماع مجلس
الدولة المؤرخ في 26 دجنبر 1609م جليا تلك التخوفات التي كانت لدى الإسبانيين من
ردود الفعل المحتملة والتي يصعب التنبؤ بها من قبل المورسكيين المطرودين أو من
أولئك المرشحين للطرد نحو المغرب، وكذا من الشيخ المامون ومن عبد الله ومن
المغاربة بصفة عامة، إذا ما تم الاستيلاء على العرائش بعد تهجير المورسكيين.
إن مجلس الدولة هذا يبين الأولويات التي
كان يعتبرها كل عضو فيه بخصوص سياسة الدولة والأحداث الكبرى التي كانت تعيشها
إسبانيا تلك الظروف. فجينتينو مرتارا، بالرغم من عدم انتمائه إلى هذا المجلس،
ونظرا لدور الوساطة الذي أداه بين الطرفين، قد أدرج رأيه بين آراء أعضاء المجلس.
وكان يرى بطبيعة الحال أن الأسبقية يجب أن تعطى لقضية العرائش ولرجوع الشيخ
المامون إلى المغرب قبل طرد المورسكيون. إننا نفهم موقف رجل كان هاجسه الوحيد هو
التخلص من هذا الملف الذي طال كثيرا وأخذ منه الوقت والمال والمجهود ما لم يأخذه
من غيره. وقد كان لباقي أعضاء المجلس آراء مخالفة لهذا الرأي مع تدرج فيها. وفيما
يلي هذه الآراء:
- الفارس الأكبر لليون (Comendador
Mayor de Leon): قال إن المتفق عليه هو أن تنجز مسألة العرائش بعد انتهاء الطرد.
وهذا الأمر في نظره يشكل ضمانة كبرى.
- مركيس بلادا (Marqués de
Velada): رأيه يسير في
الاتجاه السابق نفسه. وكان يرى وجوب إتمام ما بدئ في قضية طرد المورسكيين، وذلك
دون الإقدام على فعل أي شيء من شأنه أن يمنع أو يؤخر قضية العرائش، وذلك لأنه
سيكون من المؤسف أن تباشر المسألتين معا وأن لا تحقق أي شيء منهما… ومن هذين الشيئين لا ينقص من قيمة طرد المورسطيين بل يعتبرها أكثر
أهمية من احتلال العرائش الذي تحفه كل الصعوبات المعروفة.
- دوق لارم (Duque de
Lerma): وكان لهذا
الدوق تأثير كبير على فليب الثالث في اتخاذ قرار الطرد النهائي في حق المورسكيين.
لذلك لن ننتظر من هذا الشخص موقفا مخالفا لخطته القاضية بإبعاد العنصر المورسكي من
إسبانيا. ورأي دوق لارم هو:
أن تعد العدة
وأن ينجز كل ما قيل وأن ينشر قرار (طرد المورسكيين من) الأندلس في أقرب وقت وأن
يعمل على تنفيذ التهجير… وإذا لم يقم المورسكيون بتحرك، سينتهي التهجير في وقت وجير، وكل
ما سيهيأ له سيصلح لقضية العرائش. وإذا قام (المورسكيون بحركة ما)، فسيكون من
المفيد عدم التزامنا في تلك القضية (أي العرائش).
نستنتج من تصريح دوق لارم أن مسألة
العرائش لم تكن تكتسي أهمية كبرى عنده، خصوصا بالمقارنة مع هاجسه المتمثل في طرد
المورسكيين.
- القائد العام لقشتالة (Condestable
de Castilla): يعتبرها
مسألة ناجحة لا محالة، ويجب أن يكون الطرد من الأندلس وغرناطة ومرسية سابقا بأيام
كثيرة أو بعد أمر العرائش. ويرى أنه بعد نشر قرار الطرد، يجب العدول عن الاهتمام
بالعرائش قبل إنهاء الطرد.
- دوق إقطاعة ابن ملك (Duque del
Infantado): إن المهم هو
إنهاء عمل الطرد الذي شرع في إنجازه. وهو يعتبر هذا في درجة عليا، بحيث لو خير بين
هذا ومسألة العرائش لاختار قضية الطرد.
بعد حسم أمر العرائش لصالح الاستراتيجية
الإسبانية، سيبقى النظر في جدوى كل الجهود التي بذلها الإسبان خلال عقود طويلة
للحصول على هذه القاعدة التي كان يعتبرها الإسبانيون أصلا لكل المشاكل التي كانت
تلحق بسفنهم. وهنا نتساءل: هل استؤصل الضرر من جذوره؟ وسيبقى النظر كذلك في
الإمكانات الإسبانية المادية والعسكرية لمواجهة أمور هذه القاعدة بكل مستلزماتها
أو أن الإسبانيين قد دخلوا إلى نفق لا يعرفون مخرجه.
إن الوثائق التاريخية المحفوظة في
سيمانكاس تبين أن وجود الإسبان في هذه القاعدة كان صعبا ومضنيا، وقاسى أصحابه
الأمرين منذ أن وضعوا أرجلهم فيه. فمشاكل الانضباط العسكري المتمثلة في فرار
الجنود وقلة المؤن واللوازم ومناوءة المغاربة، إلخ. ستغير الإدراك الذي كان عند
الإسبانيين نحو هذا الأمر. ففي هذا الصدد، يقول مؤلفو "Larache":
إن
امتلاك مرسى اللكوس الذي طالما تطلع إلى امتلاكه (الإسبان) وأصبح واقعا، بدأ يظهر
غير متناسب مع الآمال التي كانت معلقة عليه. فالقرصنة ما زالت تصعد تهجماتها كما
كان الأمر من ذي قبل. وبالمقابل، نجد أن مسؤوليات الخزينة الإسبانية التي كانت
تعيش حالة مزرية قد تفاقمت كثيرا خصوصا مع المتطلبات العديدة من الأموال والمؤن
واللوازم التي كان حاكم العرائش يستعجل ويضايق بها يوما بعد يوم الملك فليب الثالث
نفسه.
وقد أسفرت هذه الظروف التي أضيفت إلى
الفشل الذي حصد عند محاولة إبطال مرسى المعمورة، على بروز حالة عامة من المعارضة
الجذرية لما كانت عليه الأمور في السابق خلال سنين طويلة حيث كانت تغذي آمال
وتطلعات السياسة الإسبانية في المغرب([15][15]).
المعمورة:
إن القاعدة التي ستشغل السياسة الإسبانية
في المغرب من جديد بعد إنهاء مسألة العرائش هي المعمورة.
إذا اعتبرنا الوثائق الإسبانية التي أرخت
للفترة المباشرة القريبة من احتلال هذا المكان، رأينا أن فكرة الاحتلال في هذه
الحالة قد طرحت في الشهور الأولى التي تلت الاستيلاء على العرائش وأنجزت بسرعة
كبرى، خصوصا إذا قورنت مع ما حدث في قضية العرائش التي تباطأت منذ أيام فليب
الثاني وأحمد المنصور إلى التاريخ المعروف. إن احتلال العرائش القريب نسبيا بكل ما
مثله من خسارات مالية كان على الإسبان أن يواجهوها ومشاكل مضايقات المغاربة لهم
نتيجة رد فعل منطقي، أرغم الأسبانيين على تركيز الجهد الذي بقي عندهم من أجل
الحفاظ على هذه القاعدة وتلافي الدخول في تعقيدات جديدة([16][16]). وسنجد النقاش يدور في البداية حول
احتلال المعمورة أو أبطال مدخل النهر بإغراق سفينة محملة بالحجارة. وبالنظر إلى
الظرفية التي كانت عليها الأمور الإسبانية في تلك الفترة، سيتم ترجيح الحل الذي
كان يتجه نحو إقفال مدخل نهر سبو. غير أنه سيتبين بعد وقد قصير عدم نجاعة هذه
العملية.
وإذا حاولنا أن نتتبع تطور الأحداث في
قضية المعمورة، وجدنا أن الاهتمام بها يبدأ منذ الشهور الأولى من سنة 1611. سنعثر
في الرزمة E494 من أرشيف
سيمانكاس على عدة وثائق ترسم لنا مسار هذا الاحتلال وملابساته. فمحضر مجلس الدولة
المنعقد في 27 يناير 1611م لا يتحدث عن المعمورة، ولكنه يقتصر على التطرق إلى
موضوع العرائش وضرورة تحصين هذه القاعدة. ولكننا بعد شهر من ذلك (أي في 27 فبراير
1611م)، سنجد وثيقة أخرى تتحدث عن تسليم مركيس سان خرمان (Marqués de
San German) ورقة يعبر
فيها عن ضرورة إنهاء مشكلة المعمورة التي تكتسي عنده القيمة نفسها التي للعرائش.
تقول الوثيقة([17][17]):
إن مركيس سان
خارمان قد سلم ورقة يعبر فيها عن الأهمية البالغة التي يكتسيها تحصين قاعدة
العرائش وإسكانها بعد ذلك، لأنه من المعلوم أن زيدان يحاول الحصول على المساعدة من
الجزر، وذلك من أجل اكتساحها (أي العرائش). وإذا أضفنا إلى هذا وجود القراصنة الذي
يحتمون في المعمورة (التي تبعد بـ15 فرسخا من العرائش)، فسيتمكنون ليس من التشويش
على احتلال هذا المكان من قبل جلالتكم فقط، الشيء الذي لا يقل أهمية عن العرائش،
بل سيلحقون الضرر بهذه الأخيرة إن هم وجدوها غير محصنة(…). لذلك، فإن إنهاء مسألة المعمورة له الأهمية نفسها (التي
للعرائش). فبامتلاك جلالتكم لتلك القاعدة، ستصان ممالككم وكذا المحيط الأطلسي من
(فعل) القراصنة وهجوماتهم. وبما أننا نتمتع بالسلم والصداقة مع مولاي الشيخ،
فسنستطيع متابعة التزامات جديدة للحصول على هذا برضاه ومساعدته، بالرغم من أن
المولى زيدان سيعارضه(…).
إن مجلس الدولة سيأخذ مأخذ الجد ما عبر
عنه مركيس سان خارمان في الورقة المذكورة وسيعقد اجتماعا للتداول حول هذا الموضوع
في 28 فبراير 1611م، وسيجيب على استشارة الملك ببعث خبير لمعاينة المعمورة معاينة
جيدة. ويمكن إيجاز ما جاء في محضر هذا المجلس في ما يلي:
- تحصين العرائش والتأهب فيه انتظارا
للوقت المناسب للتدخل في المعمورة واستخبار المغاربة عن إمكان الدخول في الحديث مع
مولاي الشيخ لإنجاز ما كان المركيس قد اتفق بشأنه مع القرني والمتمثل في مجيء
المركيس بحرا والقرني برا للاستيلاء على القراصنة الموجودين داخل المعمورة، وأن
تقسم الغنائم بين جنود ملك إسبانيا ومولاي الشيخ. وبهذه الطريقة، سيتمكن الإسبان
من معرفة مدى رغبة المغاربة في الاحتفاظ بهذا النهر.
- إذا كان أمر الاحتلال يقتضي التدخل
بالقوة، فستكون الحاجة إلى ألفي رجل من رجال الحرب واثنتي عشرة سفينة صغيرة من سفن
الأسطول محملة باللوازم وحزمات الخشب. ويكون تاريخ إنجاز العملية بين شهري يوليوز
وشتنبر. وقبل الدخول في حاجز النهر، يتم إنزال الجنود في أحسن مرسى يوجد بالقرب من
هناك ومعهم واقية (Trinchera) تقيهم من الخيالة فقط، لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن
يلحقوا الضرر (بالجنود). ويجب أن تخرج أربعة مدافع صغيرة لوضعها على مدخل النهر،
وهو المكان الذي يجب احتلاله للاحتماء فيه وضمان صد الهجمات التي قد تقوم بها سفن
القراصنة الموجودة في الداخل.
- بعد هذا، يمكن إقامة حصن صغير غير
مكلف.
- ويقترح كونت إلدا (Conde de
Elda): "إذا
كان التحصين سيكلف كثيرا، يمكن الانسحاب من طنجة لأنها لا تؤدي الخدمة المطلوبة،
وتسلم المعمورة عوضها للبرتغاليين.
- والشيء نفسه يقوله السيد فرانشيسكو
دوارتي (Don
Francisco Duarte). فهو يقول إنه من المناسب احتلال هذا المرسى لصعوبة إغلاق منفذ
النهر بسبب كبره وقوة تيار الماء فيه.
سيقتصر الإسبانيون في هذه المرحلة الأولى
على اتخاذ الحلول الأقل كلفة كإغلاق مدخل المرسى بإغراق سفينة محملة بالحجارة. لكن
هذا الحل الذي شكك في جدواه فرانشيسكوو دوارت، كما رأينا سابقا، لن يكون هو الحل
الأمثل كما سيتبين مستقبلا. فمحضر([18][18]) مجلس الدولة المنعقد في 22 مارس من
سنة 1612م سيسجل فشل هذه الاستراتيجية عندما قال:
قد أمرت جلالتكم أن يسأل دوق مدينة
سيدونيا ومركيس بيافرانكا وأن يقوما بإخبارنا حول مناسبة رجوع القبطان خيرونيمو
كارو (Geronimo
Carro) لتفقد مرسى
المعمورة (من جديد). وقد كان جوابهما أنه لا جدوى من القيام بهذا الإجراء، لأن
الجميع يعرف أن كل السفن تدخل وتخرج من ذلك المرسى بالرغم من الإغلاق الذي أجري
فيه. ورأيهما هو أن يحصن (هذا المرسى) لأن كل ما سينفق في هذا الأمر سيعود بفائدة
كبيرة، ويجب أن لا يضيع الوقت لإنجاز أمر مهم كهذا، لأنه من المعروف أن الأعداء
يسعون إلى احتلاله.
ولكن بالرغم مما قلناه سابقا، سنجد أن
اتباع استراتيجية التدخل في المعمورة بأقل كلفة سيكون هو النهج الموضوع تحت الدرس.
ففي مجلس الدولة المنعقد بتاريخ 7 أبريل 1612م([19][19]) حول قضيتي العرائش والمعمورة، يقرر
الملك فيما يخص اقتراح إغلاق حلق نهر سبو أو تحصين المعمورة، ما يلي:
(أعتبر)
الآراء حول تخفيف كلفة تحصين العرائش صائبة، وذلك إلى أن نرى كيف ستجري الأمور في
المعمورة. ومن أجل معاينتها، (آمر) بأن يرسل الآن جندي من أحسن الجنود ومهندس
ممتاز مع اتخاذ كافة الاحتياطات من أجل ذلك…
يحدر التذكير هنا بأن الأمور لم تكن تسير
على ما يرام في العرائش، الشيء الذي أدى إلى ظهور اقتراح الانسحاب من هذه القاعدة
بعد سد حلق النهر فيها([20][20]). ففي هذا الاجتماع سيقع التداول حول
هذه النقطة التي أمر الملك بدراستها. في 6 ماي 1612م كان الإسبانيون قد حمعوا ما
يكفي من المعلومات حول المعمورة ولم يعودوا في حاجة إلى استطلاع إضافي. وقد كان
المخطط جاهزا في هذا التاريخ لا تنقصه سوى الاعتمادات المالية التي لم يكن القرار
قد اتخذ بشأنها. ونجد في هذا المجلس اقتراح الفترة التي يمكن القيام خلالها بإنجاز
العملية (في بداية الربع الأول للهلال المتناقص من فترة القيظ) ([21][21]). وقد كان الظرف مواتيا، لأن الفترة
كانت تشهد انقساما في صفوف المغاربة([22][22]).
بعد هذا الاجتماع بأقل من أسبوع، سينعقد
المجلس من جديد لتدارس ما جائ في رسالة من دوق مدينة سيدونيا حول اقتراح أحد
القراصنة الإنجليز "بإغلاق حلق النهر في المعمورة إغلاقا تاما، بحيث يتعذر
الدخول إليه على كل القراصنة أو اتخاذه مرسى"([23][23]). يتعلق الأمر هنا بالقبطان أو القائد
غييرمو باش (Guillermo Baax)، "سيد ذلك النهر الذي يطيعه الجميع. وهو يملك رجالا مختارين
جدا وفي استطاعته، إن هو أراد ذلك، أن يحول دون دخول باقي القراصنة ذلك المرسى
ويفتحه أمام جلالتكم"([24][24]).
وقد كان جواب الملك على هذا الاقتراح في
العبارة الآتية المكتوبة كالمعتاد بخط يده على الصفحة الأولى: "هكذا. وليكن
ذلك حالا. (Assi y sea luego).
ولكن في محضر اجتماع المجلس المنعقد في
16 يونيو 1612م، سنرى أن "المفاوضات مع القبطان الإنجليزي ما زالت لم تحسم
بعد"([25][25]). سيتم التطرق في هذا الاجتماع إلى
رسالة من دوق مدينة سيدونيا مؤرخة في 5 يونيو 1612م يعبر خلالها عن ثلاث صعوبات
تعترض طريق إنجاز عملية المعمورة. وتتلخص هذه الصعوبات في الظرف الزمني المتقدم
جدا بالنظر إلى الاستعدادات التي لم تتم بعد، وهو ظرف غير مناسب للقيام بالعمليات
في شاطئ يتسم بالهيجان في هذه الفترة السنوية. وتكمن الصعوبة الثانية في
الاعتمادات المالية التي يصعب جمعها دون إلحاق الأضرار البالغة (بالجهات التي
ستؤخذ منها). وتتجلى الصعوبة الثالثة في جمع الرجال (3000 رجل) في وقت وجيز ومن
أماكن يتعذر إخراج الرجال منها.
وبالإضافة إلى هذه الصعوبات، يقول الدوق:
إذا أرادت جلالتكم أن تقوم هذه السنة
بالحراسة (La Façion)، فيجب إعداد المواد بسرعة كبرى لتحصين الموقع. فبالرغم من أن
البربر والعرب (Barvaros y Alaraves) في لك الضواحي أناس ضعاف وسلاحهم بسيط، فإن سلا توجد على بعد
خمسة فراسخ والقوات التي يملكها مولاي زيدان في مراكش على بعد عشرة أيام وفي فاس
على بعد ستة أيام. وترقبا لوصول وتهييء كل هذا، يجب تحصين الموقع بثلاثة آلاف رجل
وست مائة جندي ممهد للطريق، وهم ضروريون جدا. فبمساعدة غوغاء اسفن الشراعية
الكبيرة (galeras)، سينجز ذلك في
وقت قصير، خصوصا وأنه توجد في ذلك الموقع أحجار كثيرة.
في اجتماع مجلس الدولة([26][26]) بتاريخ 26 يونيو 1612م، نجد دوق
مدينة سيدونيا الذي أبدى اهتماما كبيرا بموضوع المعمورة في المدة الأخيرة، يأتي
باقتراح جديد مؤرخ في 17 يونيو من السنة نفسها يتلخص في إرسال أحد قواد البحر
ليرسو في تلك الضواحي تحت علم هولندي حتى لا يثير شكوك أهل البلد، وذلك ليمنع دخول
المرسى كل من أراد ذلك:
… وأن يدخل كذلك ثلاث أو أربع سفن من سفن أسطول دنكارك (Dunquerque) تحت هيئة سفن تجارية وبمساعدة كل
ما يمكن أن يلقاه هناك مجهزا ولو اقتضى الأمر إخراج بعض الرجال من العرائش…
وقد ظهر خلال هذا الاجتماع أن الشعور
العام كان هو إرجاء القيام بالعملية لوقت لاحق، خصوصا وأن المغاربة كانوا في
انقسام كبير بينهم ولا يشكلون خطرا يذكر. وقد عبر القائد العام لليون عن الرأي
السائد (وهو الرأي الذي يأمر الملك باتباعه) عندما قال:
… قد قال كل واحد ما يشعر به. فإذا أضفنا ما كتبه أخيرا دوق مدينة
سيدونيا، سنجد أن سلبيات مبارحة تلك العملية وإرجاءها لظرف أحسن قد تقلصت، خصوصا
وأننا لم نقم هناك أي تحصين أو شيء يرغمنا على إنجازه بسرعة. ويجب أن لا نظهر أي
اهتمام بالموضوع حتى ينجز. وفيما يرجع إلى حراسة مدخل ذلك النهر من قبل سفن
الأسطول فحسن، خصوصا إذا أحرقت الآن سفن القراصنة كما حدث في حلق الواد (La Goleta) (بتونس)".
هكذا ستستمر المعمورة دون احتلال الإسبان
إلى سنة 1614م حيث سنرى أن الأمور في هذه السنة قد اكتست سرعة جديدة عند
الإسبانيين فقرروا الإقدام على الاحتلال في وقت وجيز.
فبتصفحنا لأوراق الرزمة E2644 لأرشيف سيمانكاس، نعثر على 14
وثيقة مؤرخة بين 3 فبراير و11 أكتوبر من سنة 1614م. (وقد احتلت المعمورة في 3 غشت
من السنة نفسها). إن الوثائق السابقة لهذا التاريخ تزودنا بمعطيات مهمة تصور لنا
تطور تشكيل فكرة احتلال المعمورة في هذه السنة:
- إن مجلس الدولة المنعقد في 3 فبراير
1614م والذي يجيب على استشارات بعث بها مجلس البرتغال ينصح، من بين ما ينصح به،
"بصيانة وحراسة جيدين لقواعد إفريقيا…". ويضيف في موضوع تسليح ثلاث سفن: "إن مركيس بيافرانكا
قال إنه يعتبر تسليح هذه السفن مسألة غير مناسبة بتاتا…، لأنهم إذا نقلوا السلع سيفقدون الحراسة على السفن وكذا الجنود في
القاعدة. ورأيه أن أسطول صاحب الجلالة الأطلسي فيه الكفاية".
- في اجتماع مجلس الدولة في اليوم
الموالي (4 فبراير) حول مضمون رسالة بعث السيد فرانشيسكو بارتا (Don
Francisco de Varte) إلى الكاتب خوان دا سيريسا (Secretario
Juan de çirça).
السيد فرانشيسكو دا بارتا سيرون… يتحدث عن مدى الأهمية التي يكتسيها اللجوء إلى إيجاد حل لمسألة
المعمورة، لأن كل يوم يمر إلا وتكبر فيه قوات القرصنة وأرباحهم. وإذا لم يوجد الحل
في أقرب وقت، يمكن استحالة ذلك مع التأخير. وفي هذا الصدد يبعث التصريح الذي قام
به صاحب إحدى السفن التي سرقت عندما كانت آتية من هبانا (La Havana). وقد أشار إلى أشياء أخرى، ومن
بينها أنه اقتيد إلى المعمورة. ولما كان هناك، وصلت سفينة من مرسى القديسة مريم (Puerto de
Santa Maria) محملة بخمور
وبكثير من البارود والمؤن لصالح هؤلاء القراصنة. وبالرغم من أنه حاول التعرف إلى
القائد، فإنهم لم يدلوه عليه؛ لأنهم في هذا يتخذون كل الاحتياطات.
لم يقدم هذا المجلس أي حل ملموس لاقتراح
فرانشيسكو دا بارتا واقتصر على التعبير عن رأيه حول المؤن واللوازم التي سيقت من
مرسى القديس مريم وكذا حول مسألة أخرى تخص نقود البليون. والملك، سيرا في نفس
اتجاه المجلس، سيقتصر على وضع قراره بكلمة: "هكذا" (assi).
- وبعد ذلك بيومين (أي في 6 فبراير)،
يجتمع مجلس آخر حول ما كتبه دوق مدينة سيدونيا في موضوع المغرب. ففي رسالة مؤرخة
يوم 20 يناير الماضي، يوجه رسالة إلى الكاتب خوان دا سريسا و
يقترح… إذا أعطى المولى زيدان ترخيصه لتحصين المعمورة، ويسلم مقابل ذلك
البريجة (Mazagan)، كما اقترح
ذلك على أبيه مقابل العرائش، سيكون مفيدا لجلالتكم التخلص من تلك القاعدة التي لا
تتوفر على مرسى وتوجد على ساحل أمواجه قوية، وكذلك ستتخلص من قاعدة للصوص هي
المعمورة.
هكذا نجد بوضوح موقف مجلس الدولة –وقد صادق عليه الملك بعبارة "حسنا" (esta bien)- يسير في اتجاه الموافقة على
التفاوض مع المولى زيدان واقتراح دوق مدينة سيدونيا، ولكن ذلك بعد التأكد من أنه
ما زال يملك زمام الأمور في هذه القضية:
فإذا استمر زيدان، فسيكون من المفيد قبول
صداقته والنظر في ما سينتج عن مسألة مقايضة البريجة بالمعمورة، التي يشير إليها
الدوق؛ لأن قضية المعمورة تكتسي الأهمية المعروفة. وإذا كان من الضروري أن تقام
هناك تحصينات، فمن الأفضل أن يكون ذلك عن طريق الصداقة وليس بالسلاح. ويمكن أن
يفحص كذلك اقتراح اليهودي بلاتشي (Palache) القاضي بمحاولة جلب زيدان إلى طاعة صاحب الجلالة…
- بعد ذلك بوقت قليل، أي في 24 مارس
1614م، سنجد مجلسا آخر للدولة صادق الملك على مداولاته وعلى اقتراح دوق مدينة
سيدونيا بالعبارة الآتية: "أجيبوا دوق مدينة سيدونيا أن ما يقوله بخصوص
المعمورة مفيدا، وكذلك استمالة زيدان إليه…". كان الدوق قد بعث رسالة إلى الملك بتاريخ 15 مارس 1614م
يقول له:
إن نهر المعمورة مهم جدا وتوجد فيه
ثلاثون سفينة للقراصنة، وقد اشترى المولى زيدان سفينتين من هولندا وهو الآن يشتري
سفينة أخرى بغرض إلحاق الضرر بواسطتها، ويحصن ذلك المرسى ليحمي فيه أسطوله بمساعدة
أصدقائه الهولنديين، ويشير الدوق إلى أن هذا سبب مناسب جدا للتفاوض مع زيدان حول
تنازله لجلالتكم عن المعمورة مقابل البريجة، الأمر الذي يراه ممكنا…
إن الاقتراحات التي تأتي الآن من مجلس
الدولة لا لف بالموضوع، دورانا وإنما تطرح الأشياء مباشرة كما يمكن أن نرى ذلك من
خلال اقتراح دوق إقطاعية ابن ملك حيث يصرح: "… فيما يخص المعمورة…، يجب احتلالها وإقامة قلعة في ذلك المكان لاستعماله…". لنذكر هنا أن البريجة التي يراد مقايضتها بالمعمورة
"لم تعد تصلح لشيء" في نظر مركيس بيافرانكا.
- في اجتماع مجلس الدولة المنعقد يوم 27
ماي 1614م، ظهر أن المولى زيدان كان يحاول أن يستعمل ورقة المعمورة للحصول على قسم
من الثروة التي تركها أخوه الشيخ المامون في طنجة عند البرتغاليين. ويظهر أنه كان
في قضية المعمورة يساير اللعبة التي دشنها الإسبانيون وكان في الوقت نفسه يحاول
تحصينها. "يضع الدوق في الاعتبار أن ذلك المغربي (المولى زيدان) قد كتب هذه
الرسالة في وقت مناسب ليقترح عليكم استبدال مزكان بالمعمورة".
- في مجلس الدولة المنعقد في 5 يوليوز
1614م([27][27])، نرى من جديد اقتراح تدخل من قبل
قرصان إنجليزي آخر هو Thomas Joly الذي كان يتواجد في مرسى المعمورة بإحدى وعشرين سفينة. وقد أتى اقتراح
هذا الإنجليزي في رسالة بعثها إلى أخيه في أليكانتي (Alicante) حيث كان يمارس التجارة. يقترح
هذا القرصان أن يضع نفسه رهن إشارة ملك إسبانيا ليؤدي له أي خدمة أرادها ما لم تكن
ضد ملك إنجلترا وعلى أساس أن تعطى له الضمانة ليتمتع بما يملكه. وقد كان جواب
الملك على هذا الاقتراح هو إرسال هذا القرار لدوق مدينة سيدونيا ليطلع عليه ويتيقن
من أسسه. وبعد ذلك، سيظهر ما يجب القيام به.
وسط كل هذه الاعتبارات، وعلما أن قوات
المولى زيدان كانت قد ضعفت كثيرا، كان على الإسبانيين أن ينهجوا سياسة حذرة جدا
للحفاظ على علاقتهم بعبد الله بن الشيخ المامون (الذي كان معاديا للمولى زيدان)
والذي كان يطالب كذلك بثروة أبيه التي بقيت في طنجة، وكان عليهم في الوقت نفسه أن
لا يغيظوا زيدان. إن كل ما كان يهم الإسبانيين هو "… أن لا يبقى أي منهما باليد العليا والمطلقة، وذلك بالنظر إلى
المشاكل التي قد تحدث إذا ما وقع الاتفاق بينهما".
- بعد ذلك بوقت قليل سيحدث ما كان يخافه
الإسبان: "… حصل الاتفاق بين زيدان وعبد الله، وزيدان يحاول بحذر كبير أن يحصن
المعمورة…".
لهذا السبب، اتفق مجلس الدولة في اجتماعه
المنعقد في 5 يوليوز على قبول اقتراح صاحب الجلالة حول المعمورة؛ لأنه إذا تقرر
القيام بعمل ما، فيجب أن لا يضيع مزيدا من الوقت. لقد كان جواب الملك هو:
"إنني (الآن) على علم بهذا".
سلا
كان احتلال المعمورة لا يزال حديث العهد
عندما وجد مجلس الدولة الإسباني فوق طاولته اقتراحا جديدا لاحتلال مكان آخر على
الساحل الأطلسي المغربي، وهو: مرسى سلا.
يتعلق الأمر باقتراح جاء من عند خوان
لدوبكو ردريغو (Juan Ludovico Rodrigo) يهودي من أصل تطواني، اعتنق الديانة الكاثوليكية ويعيش في لودي (Lodi) في دولة ميلانو (Estado de
Milano). يعرض هذا
الشخص اقتراحه في مذكرة من سبع صفحات يشرح خلالها الدوافع والأهداف والوسائل من
أجل التوصل إلى الغرض المنشود. فهو يعتبر أنه:
لم يبق لملكي
فاس ومراكش في جهات إفريقيا مدينة لها مرسى بحري باستثناء سلا، كما لا يخص جلالتكم
إلا هذا المرسى ليكون سيد ذلك الشاطئ كله. ففي هذا المرسى تحتمي سفن القراصنة
الذين يتسببون في أضرار بالغة لرعايا جلالتكم. وهو يقترح أن يضعه تحت سلطة جلالتكم
بسهولة كبرى وبنفقات قليلة بفضل الخطة التي يورد هنا… فبعدما تم احتلال العرائش، يحتمي في مرسى سلا كل سفن القراصنة
التي كانت تذهب إلى العرائش بغنائمها…([28][28]).
يوصي أن أمر
سلا هذا يمكن أن يتطلب شغلا كثيرا، خصوصا بعدما أصبحت المعمورة في ملك جلالة
الملك. وما يجب القيام به هو تحصينها قبل كل شيء وأن يخبر السيد لويس فخاردو (Don Luis
Faxardo). فإما الآن أو
بعد تحصين المعمورة جيدا، يأمر بمعاينة مسألة سلا من قبل شخص خبير جدا ويخبرنا بكل
ما سيجد وما سيراه.
وقد كان قرار الملك كما يلي: "لينجز
كل ما يبدو في كل حالة، وقد يكون من المفيد أن يرسل هذا الرجل إلى السيد لويس
فخاردو (Don Luis
Faxardo) ليخبره
بمحاولته، وعلى لويس فخاردو أن يدلي لنا برأيه بعد الاستماع إليه".
ونظن أن هذا الاقتراح لم يؤخذ مأخذ
التطبيق، نظرا للظرفية التي اقترح فيها. فقد كانت قضية المعمورة لا تزال مطروحة،
وكان على المسؤولين الإسبان أن يركزوا جهودهم على صيانة القاعدة الجديدة دون الخوض
في غمار عملية أخرى تستلزم حسابات مختلفة. أضف إلى هذا كل ما كان على الخزينة
الإسبانية أن تواجهه من نفقات مع إضافة العرائش ثم المعمورة إلى نفقاتها الأخرى.
لقد رأينا كيف كانت تطلب العدد واللوازم للعرائش دون أن تصلها([30][30]).
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذا
الاقتراح لا يرد ضمن الحالات التي استفادت من اهتمام ما في مداولات مجلس الدولة
المتعلقة بمشاريع احتلال سلا. وأظن أن الاهتمام الحقيقي للإسبانيين باحتلال سلا
سيبدأ سنة 1619م، كما يتضح من القائمة التي تبين تسلسل تاريخ قضية سلا والتي تبتدئ
في هذه السنة، كما يمكن أن نقرأ في "ملخص ما حدث في مسألة سلا منذ سنة 1619م
إلى 1632م"([31][31]) (وهذا الملخص مؤرخ في أواخر شهر ماي
من سنة 1638م).
وفي سنة 1619م سنجد اقتراحين اثنين
لاحتلال مرسى سلا. الاقتراح الأول لمورسكي اقترحه في بداية السنة([32][32]) على حاكم آسفي جورج ماشكرانياش (Jiorge de
Mascarenhas)، والثاني
لمسلم أو مغربي (moro) اسمه سيدي عيسى بن الطالب وكان مبعوثا من قبل العياشي.
فأما المورسكي، فكان قد وصل إلى آسفي على
ظهر سفينة أبحرت من سلا تحت أوامر المولى زيدان، ودون سابق إعلام يتصل بالحاكم
المذكور ويقترح عليه الصفقة([33][33]).
إذا اعتبرنا أن الملخص السالف الذكر
معيارا لمعرفة ما كان الإسبان يرونه مهما وما كان دون ذلك، قلنا إن هذا الاقتراح
لم يحظ بالاهتمام لأنه قد غيب عن الملخص.
أما الاقتراح الثاني الذي حدث سنة 1619م،
فيدخل في سياق آخر يصفه الملخص المذكور كما يلي:
1- "إن
حاكم طنجة بعث بنسخة من رسالة العياشي الذي يقول فيها إن مغربيا سيذهب للتفاوض مع
صاحب الجلالة في مسائل مهمة. وقد قدم مجلس الدولة استشارة في 22 من شهر يونيو
مفادها أنه نظرا لوصوله إلى هنا، فسيكون من المفيد الاستماع إليه. وقد قرر صاحل
الجلالة أن يستمع إليه الكاتب السيد بادر دا طوليدو (S. Don Pedro
de Toledo).
2- "إن رسالة العياشي ورسائل شيوخ
وقواد سلا([34][34]) تتلخص في أن صاحب الجلالة قد تكهن
بأنه (أي العياشي) سيحكم الغرب وأن المرابط العياشي أراد أن يذهب (إلى هناك)، ولم
يقدم على ذلك نظرا لأشغاله الكثيرة، وهو يطلب مساندة صاحب الجلالة، وسيفعل ذلك. إن
شيوخ وقواد سلا عرضوا تسليم القصبة. ولهذا أتى المغربي الذي صرح بأنه يتوفر على
عشرين يوما فقط للقيام بهذا…".
يوضح الملخص المذكور أن العياشي هو الذي
أرسل عيسى بن الطالب، وذلك باتفاق مع شيوخ وقواد سلا. وكان الإسبان -وعلى رأسهم
الملك، وبموافقة دوق مدينة سيدونيا- واثقين من الاقتراح، فعزموا على المضي إلى
الأمام ودخول سلا بـ500 رجل كانوا سينقلون على متن أربعة سفن من سفن الأسطول
العسكري. ولكن السيد فدريكي دا طوليدو (Don Fadrique de Toledo) أبدى تحفاظته التي عبر فيها عن "الصعوبات التي تكمن في
إخراج رجال البحرية لأغراض أخرى. وقال إنه يحذر في هذه المسألة، ولكنه كان يعتبر
الجدوى من احتلال سلا ضعيفة جدا".
وسيحدث هذا الاقتراح الذي أخذه الإسبان
مأخذ الجد، خيبة أمل كبرى لدى دوق سيدونيا؛ إذ نراه يحكي ذلك بمرارة كبرى سنة
1622م([35][35]):
... مع هذا لم يتم التطبيق. أما المغربي،
فقد ذهب وبقي الترجمان في المعمورة حيث مات منذ ما يقارب الثمانية أشهر. وإلى
يومنا هذا لم يكاتبنا ذلك المغربي ولم يعط أي إشارة عن نفسه، بالرغم من أن قائد
الميدان كرستبال لاتشوغا (Xpoval Lechuga) قد أخبر عن وصوله في حياته وقال إن بداية هذا الاتفاق ذكرى سيئة
من ذكرياته وأنه كان يشك في هذا الاقتراح منذ البداية...
بالاعتماد على محضر مجلس الدولة المنعقد
في 30 أبريل 1620م، نستخلص أن في هذا التاريخ كان الأمل لا يزال معقودا على اقتراح
سيدي عيسى بن الطالب. ولكن دوق مدينة سيدونيا كان يحذر السياسيين الإسبان من الثقة
التي وضعوها في الاقتراح المذكور([36][36]).
وبالرغم مما قاله السيد بابلو دا سانتا
ماريا عن عدم الثقة في اقتراح المغربي، وبالرغم من رأي دوق مدينة سيدونيا المعارض
كذلك للاقتراح (في سنة 1620م، وبعد ذلك سنة 1622م، وربما في تاريخ آخر بعد
هذا...)، وما عبر عنه قائد الميدان لتشوغا، سنرى أن الملك إلى حدود سنة 1624م لم
يكن قد فقد الأمل بعد في هذا الموضوع:
قد أمر جلالة الملك في الرابع من شتنبر
بالكتابة إلى دوق مدينة سيدونيا جوابا على رسائله المؤرخة في 29 كي تجرى آخر
التحريات في هذا الموضوع بالرغم من التسويف الذي يقابل به تسليم القاعدة، وذلك
نظرا لأنه لا يخاطر بأي شيء. وهكذا سيرسل مرتين دومنغيث (Martin
Dominguez) إلى سلا
بتكليف وتعليمات من جلالة الملك وردت في مراسلته([37][37]).
بالرغم من كل الوثائق التي استعملناها
بخصوص هذه المحاولة الثانية التي حدثت سنة 1619م لتسليم القصبة والتي تزودنا بكثير
من المعطيات المحيطة بالمسألة، ستبقى مع ذلك بعض النقط غامضة وقد توضح باكتشاف
وثائق جديدة. فمن الأشياء التي استرعت انتباهنا واستغرابنا وجود المجاهد العياشي
وراء هذا الاقتراح ورغبته في وضع كنز عظيم يوجد بالقرب من سلا في يد ملك إسبانيا.
وهناك اقتراح آخر لتسليم قصبة سلا اقترحه
القائد سافر (Zafer)([38][38]) سنة 1621م. سنجد أثر هذا الاقتراح
يرد في محاضر مجلس الدولة خلال سنتين، ولكن دون أن يصل صدى ما تقرر بشأنه إلى من
كان يحاول ترجمته على أرض الواقع. ربما كانت التجربة التي عاشها ذوو القرار في
إسبانيا مع عيسى بن الطالب قد أثرت بشكل من الأشكال في الموقف المتخذ هذه المرة.
لم يكن دوق مدينة سيدونيا قد استوعب بعد ما حدث منذ 1619م في اقتراح ابن الطالب،
الأمر الذي جعله يتحاشى الدخول في متاهات ما يقترح الآن من جديد في الموضوع نفسه.
يقول الدوق في رسالة إلى الملك مؤرخة في 16 يناير 1622م يربط فيها الاقتراحين:
... منذ البداية اعتبرت هذا الأمر (أي
اقتراح 1619م) ضائعا ومفتقدا لكل الأسس، وقد عبرت عن هذا في حينه. وما يشير إليه
هذا الشخص المسمى دوردور (Dorador) أعتبره في المقام نفسه وهو حديث تلك المرحلة نفسه. وحتى ولو كانت
له أسس أكثر -وأنا أشك في ذلك- يمكن إحالته بإذن جلالتكم على حاكم المعمورة
الموجود قريبا من ذلك المكان ليتيقن من الاقتراح بعد معرفة عمق المسلم الذي يقدمه.
وبهذه التوضيحات ستستطيع جلالتكم اتخاذ القرار على أسس أفضل. وفي انتظار ذلك،
فجلالتكم ستعرف أين توجد مصلحتها... لتستدعي المدعو بارطلمي دا أرتياغا (Bartolomé de
Artiaga). وأما رأيي
الشخصي، فهو دائما أن امتلاك جلالتكم للأسطول الملكي في بحر المحيط وباتخاذ
الاحتياطات وتزويده بالقوة، لن يكون من اللازم البحث عن أماكن أخرى في المغرب
زيادة على تلك التي تملكها جلالتكم. أضف إلى ذلك أن ما يقترح ليس بمرسى بل شاطئ
ورأس تستطيع سفن جلالتكم تطهيرها كلما مرت منها([39][39]).
وسنرى أن احتقار أهمية مرسى سلا في
البداية من لدن دوق مدينة سيدونيا راجع لاعتباره مكانا لا يتوفر على المواصفات
التي يمكن أن تجعل منه قاعدة حصينة وناجعة وبالتالي كان الدوق يعارض الاقتراحات
بتسليمه، ولكن هذا الموقف سيتحول تحولا جذريا في المستقبل عندما سيعاني الإسبان
الأمرين من جراء هذا الطرح. وسنرى كيف يعبر ملك إسبانيا عن هذا الأمر عندما قال
سنة 1638م:
... وفي ما يرجع إلى احتلال أو عدم
احتلال هذه القاعدة، فإنني أرى أنه إذا كان سيئا جدا كما يقال، فلا شك أن ذلك هو
المناسب، ولكن لما أرى ما فعله ويفعله هؤلاء المغاربة انطلاقا منه وبالنظر إلى
العدد الهائل من الأسرى الذين يستولون عليهم سنويا وباعتبار القوة العظيمة التي
أصبحت لديهم بحيث يصلون إلى قنال إنجلترا، فإنني اعتبر ذلك المرسى شيئا بالغ
الأهمية. وقد توصلت بعدد لا يحصى من الاستشارات من قبل مجلس الدولة ومجلس الحرب
ومن مجالس سرية حول إقدام قواتي على اقتحام تلك القاعدة وذلك المرسى، وكل ذلك
بمبررات قائمة على أسس متينة. هكذا إذن، وبالرغم من أن هذا ليس ظرفا مناسبا للحسم
في الموضوع، فإن المصلحة العليا للممالك هو أن تكون كل المراسي المهمة في إفريقيا
والمتاخمة لإسبانيا، إن أمكن، في حوزتي أو تدين لي بالطاعة التي لا تتزحزح، وإنني
أفضل هذه الأخيرة نظرا لإمكانها([40][40]).
أزيلا:
لقد كانت أزيلا بدورها موضوع اقتراح
تسليم سنة 1620م من قبل محمد بن الشيخ المامون الذي كان يتطلع بهذه العملية إلى
الحصول على نصيبه من التركة التي كان قد أمنها أبوه عند البرتغاليين في طنجة([41][41])، زيادة على الحصول على مساندة ملك
إسبانيا. ولكن هذا الملك كان يجهل أن إسبانيا لم يعد يهمها([42][42]) احتلال هذا المكان وإضافة مشاغل
جديدة للوضعية المعقدة التي كانت تعيشها القواعد التي كانت تحتلها في المغرب.
فهكذا نجد دوق مدينة سيدونيا بالاحتراس المعهود فيه يكتب إلى ملك إسبانيا ويقول
له:
... إن مولاي محمد يقترح تسليم أزيلا
لجلالتكم. وبالرغم من أن قائد الميدان يطلب مني أن أقدم له مساعدة حالية بالرجال
وبأشياء أخرى لتنفيذ محتوى هذا الاتفاق، فضلت عدم الإقدام على القيام بأي شيء في
هذا الموضوع قبل أن أخبر جلالتكم، وذلك لأن الاعتبارات للدخول في هذا الأمر ليست
يسيرة. ثم إنه من الصواب أن يكون للعمليات الجديدة منطلق من جلالتكم التي تعرف
أكثر من أي كان العمليات الصالحة والعمليات التي قد تحدث المتاعب في طريق الحفاظ
على مملكتكم وتوسيعها. ثم إننا لا نتوفر هنا على الرجال ولا على السبل للإتيان بهم
دون أمر جلالتكم. وحتى بتوفرنا على هذا الأمر، سنواجه صعوبات جمة؛ نظرا لقلة
الرجال في هذا الإقليم ونظرا لما للقواعد المغربية من سمعة سيئة...([43][43]).
يجدر التذكير هنا بأن حاكم العرائش
ردريغو دا سانتيستيبان (Rodrigo de Santistevan) الذي قاد المفاوضات حول تسليم أزيلال قد أبرم هذا الاتفاق قبل أن
يعرف رأي ملكه.
وقد كان رأي مجلس الدولة المنعقد في 25
يناير 1621م كما يلي:
... ارتأى أن يبين لجلالتكم على أساس ما
فهمه من السيد خيرنيمو (Don Geronimo) وهو أسير واسع الاطلاع على القواعد المغربية وكذلك بالرجوع إلى
ما كتبه دوق مدينة سيدونيا، يظهر أن قاعدة أزيلال هذه ليست مهمة ولا تستحق محاولة
جلالتكم امتلاكها أو إقامة حامية جديدة بها، في الوقت الذي لا يمكن عيالة قاعدتي
العرائش والمعمورة وهما معرضتان للضياع...([44][44]).
فضالة:
إن هذا المكان لا يرد عادة في الوثائق
الإسبانية كمكان يستقطب اهتمام السياسيين الإسبان. وقد أوردناه بين القواعد
المغربية التي دخلت بشكل من الأشكال في استراتيجية احتلال الإسبان لهذه القواعد
الأطلسية، لأننا وجدنا فقرة تخصه في "ملخص ما حدث في موضوع سلا من سنة 1619م
إلى سنة 1632م" المذكور سابقا. ونظرا لأننا لم نعثر على وثائق إضافية حول هذه
الحالة، سنقتصر على تقديم الفقرة المشار إليها أعلاه:
... سنة 632: يكتب حاكم المعمورة في 23
ماي أن سلا أصبحت مخبأ للسراق والقراصنة، ومن الواجب وضع حد لهذا. وإذا كان
الأسطول والسفن على استعداد ومهيأة بألفي رجل لإرسالها إليه، سيستولي على فضالة
حيث يريد بعض الهولنديين إقامة حصن. ومجلس الدولة... المنعقد في 4 يوليوز قد بين
العوائق نفسها. وقد قرر جلالة الملك أن يتدبر الأمر ليجهز ما يناسب.
استنتاج
إن العقود الأربعة والنصف من العلاقات
المغربية الإسبانية التي حاولنا معالجتها في هذه الدراسة تتميز في الجانب
الإسباني، كما يمكن أن نلاحظ، بحذر في اتخاذ القرارات وبنقص في الإمكانات لتطبيق
العمليات المخططة أو المنجزة أو المقترحة، وكذا بهاجس مستمر تجاه الخطر التركي.
أما في الجانب المغربي، فقد رأينا أن تشتت السلطة السعدية كان يقف حجر عثرة يحول
دون تحقيق وحدة الصف المغربي ضد الأطماع الإسبانية وتفتح الطريق أمام الانتهازيين
لتحقيق المصالح الذاتية.
ومن ناحية أخرى، نلاحظ في نهاية المطاف
أن إدراكات وحسابات الساسة الإسبان تجاه العرائش والمعمورة قد اتسمت بالخلل، خصوصا
في ما يرجع إلى إمكانات الدولة الإسبانية لتأخذ على عاتقها تدبير القواعد المحتلة
على الشاطئ الأطلسي المغربي. وسنرى أن تقليل دوق مدينة سيدونيا من أهمية مرسى سلا
في البداية راجع كذلك إلى تقويم غير صحيح لمؤهلات هذا المكان. وقد رأينا كيف عبر
ملك إسبانيا عن هذا الأمر سنة 1638م.
([2][2]) لم يتردد المنصور في استعمال كافة الأساليب التي تطمئن فيليبي
الثاني بأنه سيتسلم العرائش، بما في ذلك إبلاغه كتابة أنه قد أعطى الأوامر ليتم
هذا التسليم. يقول المنصور في إحدى رسائله إلى ملك إسبانيا: "… وكذلك تأمروا لأصحابكم يقبضون لأصحابنا البريجة
مثل ما أمرنا نحن للقائد إبراهيم يقابض لأصحابكم العرائش". (انظر: عبد الكريم
كريم، "المغرب في عهد الدولة السعدية"، الدار البيضاء، شركة الطبع
والنشر، الطبعة الثانية، 1978، ص.118).
([14][14]) T. Garcia Figueras y Rodriguez Joulia
Saint-Cyr, Larache, datos para su historia en el siglo XVII, Madrid, Consejo
Superior de Investigaciones Cientificas, 1973, p.65.
"بدأت سنة 1609م بأسوإ طيرة
لمحمد الشيخ. ففي 27 يناير وقعت في أبي رقراق (…) مواجهة بين عبد الله وزيدان خرج منها ابن السلطان منهزما أيما
انهزام، فالتجأ صحبة أبيه إلى الاحتماء في العرائش. هنا قرر الشيخ الهروب إلى
إسبانيا في أقرب مناسبة، وفضل إبعاد أخيه أبي فارس وابنه عبد الله والاعتماد
عليهما في الوقت نفسه لتأمين انسحابه. وهكذا عهد إليهما بإعادة تنظيم الجيش في
حدود الإمكان ومتابعة الحرب ضد المولى زيدان. (…). وأخيرا وصلت الأخبار عن كيفية وصول السلطان الهارب إلى الأراضي
البرتغالية بفضل مساعدة جينيتنو مرتارا، وذلك صحبة أمه وأبنائه الصغار وبعض القواد
الذين رافقوه خلال عملية الهروب. لقد كان خروج العائلة المالكة والحاشية يوم 4
مارس".
([31][31]) انظر أرشيف سيمانكاس، الرزمة E2668. مكنتنا هذه الوثيقة من
توضيح عدة جوانب لم نتمكن من تبيانها تبيانا صحيحا في دراستنا: « Platica en torno a la
entrega de la alcazaba de Salé en el siglo XVII", Al-Qantara, Madrid, vol.
XV, fasc. 1, 1994, pp.47-73، وتصحيح ما كنا نعتقده لما قلنا "إنه لمن الممكن أن يكون
المغربي (أو المسلم) الذي يشير إليه ماشكرانياش هو سيدي عيسى الوارد في
وثائقنا"، (ص.50).
([36][36]) يكتب دوق مدينة سيدونيا إلى جلالة الملك، من بين ما كتبه، في
رسالة مؤرخة في 8 من هذا الشهر (أبريل)؛ ويقول إنه لا يجب عقد الأمل على المقترح
الذي جاء به المغربي حول تسليم سلا، وذلك حسب ما كتبه له الترجمان السيد بابلو دا
سانتا ماريا (Don Pablo de Santa Maria)، حيث أجابه الدوق بعدم الإقبال على فعل أي شيء
دون أمر من جلالتكم، لأن مفعوله سيكون قليلا...". (أرشيف سيمانكاس، الرزمة E2645، مجلس الدولة المنعقد
بتاريخ 30 أبريل 1620م).
([38][38]) لم نتمكن من العثور على أي معطى حول شخصية هذا القائد. ولا ندري
إن كان هو القائد عجيب الذي يذكره عبد اللطيف الشادلي في كتابه "الحركة
العياشية"، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1982م، أو لا.
وقد كان عجيب قائدا على القصبة في تاريخ الوثائق التي نحن بصددها، ثم إن الشخصيتين
متشابهتان. يقول الشادلي في هامش في الصفحة 88: "الفتى عجيب إسباني مسيحي
أسلم، وهو من موالي السلطان زيدان بن أحمد المنصور، كانت له عنده حظوة ومكانة،
فكان يكلفه بجليل المهمات. ففي 15 غشت 1623م، ترأس عجيب جيشا في محاولة لقمع قبائل
دكالة. وفي شتنبر 1626م، وجهه زيدان على رأس بعثة لتهنئة كونصالو كوتنيو بمناسبة
تعيينه حاكما على البريجة، ثم وجهه زيدان حاكما على الرباط، لكن أهل المنطقة
أساءوا استقباله، ثم طردوه ليقتل على يد بعض سكان ضواحي الرباط.
لنتذكر هنا أن القائد سافر (Zafer)
الذي يرد في وثائقنا يقول: "بالرغم من أن ملك مراكش اضطرني إلى الإسلام،
فالله يعلم هل أنا كذلك، ومنحني أن أنوب عنه في قيادة القصبة. وليس لي من الإسلام
غير اللباس والإسم. لهذا أريد استدراك ضياعي، لأنه لا يجب أن يكون للمرء قانون مع
هؤلاء الهمجيين، لأن من كان له ذلك معهم، قابلوه بأسوإ الجزاء..." (انظر
دراستنا: « Platica... »,
Al-Qantara, p.65.).
([41][41]) Vease Nuestro, « Propuesta de
entrega de Arcila en el siglo XVII », en El siglo XVII hispanomarroqui,
Rabat, Publicaciones de la
Facultad de Letras, 1997, p.169.
يقول محمد بن الشيخ المامون في رسالة
اقتراحه: "سيرا على نهج والدنا المغفور له في الحب الذي كان يكنه لجلالة
الملك فليب أريد أن أقدم لجلالتكم أزيلا على يد قائد الميدان بادرو رودريغاث دا
سنتيستابان حاكم العرائش، وهو قد عبر لي عن الفرح الذي سيغمر جلالتكم بهذا العمل.
وبهذا أتعهد من خلال هذه الرسالة وبخط يدي هذه بأن أقوم (بالتسليم) في ظرف شهرين
أو أقل إذا سمحت الظروف بذلك. وإنني أتوخى بهذه الخدمة وبما تبقى من الأمور
المتعلقة بسلا وتطوان -ويشهد علي في هذا الراهب الأخ فرانثيسكو غيرا- أن تجدني تحت
طاعتك وسترعاني كما رعيت والدي وأن تأمر بتسليمي حقي من التركة وأن تلتفت إلي كذلك
بالنعم كما فعلت مع والدي المغفور له. وحرر بالقصر الكبير في الثامن من دجنبر من
سنة ألف وتسعمائة وعشرين". (لقد قمنا بترجمة النص الإسباني لرسالة محمد بن
الشيخ المامون المتضمن في الرزمة E2645 من أرشيف سيمانكاس، نظرا لعدم تمكننا من العثور
على نصها العربي).
([42][42]) في سنة 1618م، وحسب رسالة ملك إسبانيا إلى خوان دا سريسا (Juan de çiriça) المؤرخة في 29 يونيو 1618م، كانت هناك رغبة لدى الإسبان في
احتلال أزيلا لأنه عادة ما كانت تنطلق من مرساها "فرقاطات باثنتي عشرة أو
ثلاث عشرة سفينة كانت تتسبب في خسارات مهمة وكانت تستولي بالخصوص على المساعدات
التي ترسل إلى قاعدة (العرائش). ونظرا لهذا الجانب، يكون من المناسب احتلال هذه
القاعدة". (انظر عملنا السالف الذكر: « Propuesta de entrega... »، ص.171).
إرسال تعليق