العدد 369 جمادى 2-رجب 1423/ غشت-شتنبر 2002
تعتبر حركات
التحرير ومقاومة الاستعمار في الوطن العربي والإسلامي امتدادا لحركات
الجهاد ومقاومة الظلم والطغيان، عبر تاريخ الأمة الإسلامية، وقد شهد تاريخ
المغري ما يصدق هذا حينما كانت تنطلق جماعات المقاومة والجهاد من المساجد
والزوايا والرباطات لصد الغزاة الصليبيين من الإسبان والبرتغاليين على
السواحل المغربية في عهد الدولتين السعدية والعلوية، ولما جثم المستعمران
الفرنسي والإسباني على ربوع المغرب ووجها بمقارمة عنيفة بقيادة العلماء
وبعض شيوخالزوايا، وكم من مرة كانت المظاهرات تنطلق من المساجد تهز كيان
المستعمر وتقض مضاجعه، إلى أن اتسع نطاق المقاومة،ونظمت الصفوف، وكونت
الخلايا، ورسمت الخطط، ولئن أردت تسمية علماء هذا البلد الذين انخرطوا في
صفوف الحركة الوطنية، فإن ذلك سيطول وسيستغرق صفحات وصفحات وقد يفوتني ذكر
أسماء بعضهم مما قد مما قد يؤول بغمطهم حقهم وسلبهم منقبة كبيرة في حياتهم،
ولكن ما لا يدرك كله لا يحسن بنا أن نتركه كله ولا أن نترك جله.
العلامة المختار السوسي:
وقد أحببت الحديث عن علم من أعلام الحركة الوطنية وشخصية بارزة لعبت دورا كبيرا في مقاومة المستعمر وإلهاب حماس الناس وتوعيتهم وإنهاض هممهم وجمع كلمتهم ورص صفوفهم، من غير أن تفت في عضده أحكام المستعمر في حقه من شجن ونفي وتشريد، إنه العلامة محمد المختار السوسي (1318هـ - 1380 هـ/ 1900م – 1963م) المنحدر من أسرة علم وجهاد بمنطقة سوس بجنوب المغرب، فقد كان جده الأعلى سيدي «عبد الله بن سعيد» «التهالي الدرقاوي» (955هـ - 1051هـ) أشهر شيوخ سوس في زمانه، يجوب المدن والقرى يدعو الناس إلى المسك بالدين الصحيح وخلفه من بعده ابنه «سيدي أحمد ابن عبد الله بن سعيد»، ثم حفيده الشيخ «علي بن أحمد ابن محمد الدرقاوي» (1268 هـ - 1328هـ) والد العلامة محمد المختار السوسي، وهو الذي أسس الزاوية الدرقاوية في مسقط رأسه «إليغ»، وجاب على طريقة جده ووالده – بلاد سوس وغيرها يدعو الناس إلى التمسك بتعاليم الإسلام الصحيح، ونبذ البدع والخرافات التي يلبسها الجهلة لباس الدين، ودرس وقتا غير قصير في زاويته وفي مدرسته علوما كثيرة شرعية ولغوية.
لقد نشرت هذه الأسرة شتى العلوم والمعارف بالمنطقة، وأسست المدرسة الإلغية سنة 1297هـ، حيث أصبحت – بالإضافة إلى زاوية هذه الأسرة وزوايا المريدين والأتباع – منارة علم وإشعاع يقصدها طلبة العلم من شتى الآفاق لينهلوا من ينابيعها الفياضة.
في هذا الجو المفعم بالعلم والمعرفة والزهد والصلاح، ترعرع محمد المختار السوسي، فحفظ القرآن الكريم على يد والدته السيدة «رقية» بنت الأستاذ العلامة «محمد ابن العربي الأدوزي»(1) ثم درس مبادئ اللغة والقراءة والكتابة في كتاتيب قريته والقرى المجاورة، إلى أن التحق «بالزاوية الإلغية» طالبا حيث أتم حفظ القرآن وأتقنه وهو في سن الحادية عشر مما وشحه إلى الانتظام في سلك طلبة العلوم الشرعية واللغوية انطلاقا من كتب ومنظومات كصحيح البخاري، ومختصر خليل، والشعر العربي الرفيع كقصيدة بانت سعاد، ثم البردة والهمزية وغير ذلك. وقد التحق في هذه الفترة بالإضافة إلى الزاوية الإلغية بالمدرية الإشعائية ثم البونعمائية، ثم التانكارتي.
بداية الانخراط في الحركة الوطنية.
رحل المختار السوسي بعد ذلك إلى مدينة مراكش طالبا العلم على علمائها «بمدرسة ابن يوسف» وغيرها، ثم ضد الرحال إلى «مدينة فاس» ثم «الرباط» عاصمتي العلم وموئل العلماء ورجال الحركة الوطنية وقادتها، فاتسعت آفاقه في العلم والسياسة، وتوطدت صلاته بعلماء وطلبة من جهات من المغرب، وفي هذا يقول: «في فاس استبدلت فكرا بفكر، فتكون لي مبدأ عصري على آخر طراز، قد ارتكز على الدين والعلم والسنة القويمة، فجشت بقصائد حية، وهناك تعرفت على تطوانيين فاضلين هما السيد الحاج عبد السلام بنونة، وأخوه الحاج محمد، ورباطيين فاضلين هما: الشيخ الأستاذ المكي الناصري، والأستاذ الحاج أحمد بلا فريج(2)، وكانا يردان علي في بيتي، وقد يبيتان معي فيه، كما عرفت هناك الأديب محمد ابن العباس القباج والحاج محمد الناصري الشاعر، وكانت الأفكار تتبادل، فكانت المدن الثلاث: فاس، والرباط، وتطوان مركز لتفكير في فجر المغرب الجديد، ومن هناك تمخضت الفكرة الوطنية المتركزة على الدين والأخلاق السامية، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد».(3)
وقد توج هذه العلاقات والصلات بمدينة فاس، بإنشاء جمعية ثقافية باسم «جمعية الحماسة» التي كانت – رغم طابعها الثقافي – مجالا لالتقاء رجال الحركة الوطنية وتبادل الآراء والتفكير في سبل مقاومة المستعمر.
ثم ينشئ جمعية سياسية أسند رئاستها إلى المرحوم علال الفاسي، وعن هاتين الجمعيتين يقول «فهذه هي الجماعة الأولى بفاس،وقد انتظم فيها آخرون، وشجعها آخرون ثم تمشت مع الزمان، فدار الزمان دورته فإذا بأفرادها أسسوا أسرا في 12 رجب 1344هـ/1926م جمعية سرية سياسية في أناس نفعوا المغرب علما وعملا... وزعيم هذه الجمعية علال».(4)
ويرحل إلى الرباط عام 1928م مستزيدا من العلم على شيوخ الوقت هناك وعلى رأسهم العلامة «سيدي المدني بن الحسني» والشيخ «أبو شعب الدكالي»، والشيخ «العربي السائح»... وقد كانت إقامته بالرباط وسط ذكريات لا ينساها.
ثم ما لبث أن رحل إلى مراكش مدرسا بالزاوية الدرقاوية – زاوية والده – والتي أصبحت مقرا للمدرسة الحرة التي أسسها، وكان يبث فيها أفكاره الوطنية، ويحرض طلبته على نبذ المستعمر ومقاومته، وفيها، أيضا كان يعقد اجتماعات سرية مع لعض رجال الحركة الوطنية بالمنطقة، فيزعج بذلك السلطات الاستعمارية التي تصدر عام 1937م أمرا بنفيه إلى «إليغ» مع مايعرف بالإقامة الإجبارية حيث منع من التحرك بحرية،ومنع من الالتقاء بالناس والحديث إليهم، ويتعرض لشتى أنواع المضايقات والاستنطاق والتهديد، ثم ينقل إلى معتقل تافيلالت.
وبعد رفع الحضر عليه والسماح له بالعودة إلى مراكش عام 1945م استأنف نشاطه العلمي والتوجيهي في مدرسته «بالرميلة»، ثم يرحل إلى مدينة الدار البيضاء التي كانت تعج برجالات الحركة الوطنية، وتنظم المظاهرات والعمليات التي تقض مضاجع المستعمرين هناك، وكان ذلك عبر دروس توجيهية في مسجد «الحفاري» ثم «المسجد المحمدي» المشهور بحي الأحباس، ولم يلبث أن امتدت إليه يد المستعمر حيث اعتقل سنة سنة 1952م رفقة صديقة الأستاذ «محمد الحمداوي» وآخرين، وتم نقلهم إلى معتقل «تافيلالت».
الحس الإسلامي في نضاله ضد الاستعمار:
هكذا بدأ العلامة محمد المختار السوسي انخراطه في جو العمل الوطني من المساجد ومدارس العلم، فإن العلم النافع هو ما هدى إلى الحق وحارب الباطل، وقد كان الاستعمار آنذاك أكبر باطل يخيم على البلاد والعباد، فكيف يسكت أهل العلم على الضيم والاحتلال، ومن تمام ذلك أن يقوم العالم بتوعية الناس وتنبيههم وشحذ هممهم، ويعمل في ذات الوقت على التعاون مع لمخلصين ممن قرروا الانخراط في العمل الوطني، وقد كان أكثر من تعاون محمد المختار السوسي معهم ووحد عمله بعملهم علماء وطلبة علم منهم: الزعيم «علال الفاسي»، «وإبراهيم الكتاني»، وصديقه «أحمد بلافريج»، «وعبد الله الجراري»، «وعبد الرحمن بن زيدان»، «وسعيد حجي»،و«أحمد نعنينو»، و«محمد الحمداوي»، و«المكي الناصري».
ولما كان قد ترعرع وشط المساجد ودور العلم، فإنه كان من أكثر الناس حبا واندفاعا لبناء تلك المؤسسات، لا لدورها الكبير في التعليم والتثقيف، ولكن أيضا لدورها الفعال في حماية الشخصية الوطنية والهوية الإسلامية واللغة العربية للشعب المغربي بعدما عمل المستعمر على النيل من تلك المقومات والثوابت، وحارب منابعها، وضايق أهلها، وحاصرهم بشتى الوسائل، وأصدر عقوبة السجن في حق كل من يبني مدرسة حرة تدرس فيها اللغة العربية كما يذكر ذلك الأستاذ «أبو بكر القادري».(5)
وهكذا يرجع إلى العلامة «محمد المختار السوسي» الفضل في بناء:
*المدرسة الحرة بالزاوية الدرقاوية، بحي الرميلة قبالة مسجد دكالة بمدينة مراكش.
كما أنه كان وراء إنشاء الجمعية الخيرية، والجمعية المشرفة على تأسيس مدارس حرة في أحياء مراكش.
* وكان رئيسا للجنة التي سهرت على بناء «مدرسة محمد الخامس» بروض العروس،وهي المدرسة التي
دشنها جلالة الملك محمد الخامس في شهر أبريل من عام 1950م، كما كان وراء بعث «المعهد الإسلامي» الشهير بتارودانت إلى حيز الوجود.
ولكنه كان في ذات الوقت يعلن بملإ فيه، أن منطلقه في عمله النضالي كان في سبيل الله، وأن جهاده لوجه الله، غايته تحرير البلاد والعباد من ربقة الاستعمار وسطوته، والحفاظ على هويته دينيا ولغة، وفي هذا يقول:«لا أزال متمسكا بمبدئي ومعرضا عن أي قيد، وأن كان مذهبا، فأنا مسلم وطني، لا سياسي وطني، فوطنيتي من إسلامي، لا بد أن إسلامي من وطنيتي».(6)
وحينما نقف عند هذه الحقيقة نفهم جيدا عنوان مقاله بالعدد الثاني من مجلة «دعوة الحق» «لنكن مسلمين أولا».(7) ففيه من الدلالات الشيء الكثير يدركها من له أدنى مسكة من العقل الحصيف، ونفهم أيضا تركيزه على التعريف بالحياة العلمية لسوس (8) وعطاءات علمائها الذين ظلوا طيلة قرون وقرون متشبتين بالإسلام منافحين عنه ناشرين له، مؤلفين في علومه وآدابه، ونفهم جيدا إيمانه العميق بالوحدة الترابية للمغرب، سواء تعلق الأمر بأقاليمه الصحراوية الجنوبية أم الشرقية، فالإسلام يأمر بالوحدة ويحث عليها، ولا يعترف بالشقاق والتنازع والفرقة، ولا يقبل ما يعمل على نقض عرى الوحدة وتفكيكها، ولهذا كتب في جريدة «صحراء المغرب» التي كان يصدرها المرحوم «علال الفاسي»، مقالا أثبت فيه بالأدلة والحجج الكثيرة أن منطقة «تندوف» جزء اقتطعه الاستعمار الفرنسي من بلادنا وألحقه بالجزائر.
وفي ذات الوقت كان يمقت النزعة الإقليمية الضيقة، والنعرة القبلية الممقوتة مما كان المستعمر يشجعها ويرعاها ويبثها لتفرقة الصفوف وإشعال نار الفتنة والتنازع.
كان المختار السوسي يومن بوحدة البلد، وبوحدة الأمة الإسلامية التي يربطها رابط أقوى من كل رابط آخر، نعم إن آصرة الدين تتقدم على آصرة الدم والقرابة والقبيلة واللهجة أو اللغة، ولهذا كان يقول: «إنني من الذين يرون المغرب جزء لا يتجزأ، بل أرى جميع بلاد الإسلام كتلة واحدة متراصة من شمال إفريقيا إلى أندونيسيا، لا يدين الإسلام الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة، التي هي من بقايا الإستعمار الغربي في المشرق، بل لو شئت أقول –ويؤيدني ديني فيما أقول- إنني أرى الإنسانية أسرة واحدة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى».(9)
1) توجد ترجمة العلامة «محمد بن العربي الأدوزي» في المعسول «للمختار السوسي» ج 5 ص 149-210، أما ترجمة ابنته السيدة رقية ففي ج3 ص39-56.
2) انظر ترجمته في كتاب رجال عرفتهم:«الحاج أحمد بلافريج «للأستاذ أبي بكر القادري». وكتاب رجال عرفتهم: الموقعون على وثيقة المطالبة بالاستقلال: له أسضا ص5-8.
3) الغلغيات 2/226.
4) الإلغيات 1/197.
5) في كتابه: رجال عرفتهم: الموقعون على وثيقة المطالبة بالاستقلال: ص159.
6) الإلغيات 2/188.
7) صدر العدد في ذي الحجة عام 1376هـ 1975م.
8) من ذلك كتابه الشهير المعول، وكتابه خلال جزولة وكتابه سوس العالمة وكتابه الالغيات.
9) سوس العالمة: ص:ح..
العلامة المختار السوسي:
وقد أحببت الحديث عن علم من أعلام الحركة الوطنية وشخصية بارزة لعبت دورا كبيرا في مقاومة المستعمر وإلهاب حماس الناس وتوعيتهم وإنهاض هممهم وجمع كلمتهم ورص صفوفهم، من غير أن تفت في عضده أحكام المستعمر في حقه من شجن ونفي وتشريد، إنه العلامة محمد المختار السوسي (1318هـ - 1380 هـ/ 1900م – 1963م) المنحدر من أسرة علم وجهاد بمنطقة سوس بجنوب المغرب، فقد كان جده الأعلى سيدي «عبد الله بن سعيد» «التهالي الدرقاوي» (955هـ - 1051هـ) أشهر شيوخ سوس في زمانه، يجوب المدن والقرى يدعو الناس إلى المسك بالدين الصحيح وخلفه من بعده ابنه «سيدي أحمد ابن عبد الله بن سعيد»، ثم حفيده الشيخ «علي بن أحمد ابن محمد الدرقاوي» (1268 هـ - 1328هـ) والد العلامة محمد المختار السوسي، وهو الذي أسس الزاوية الدرقاوية في مسقط رأسه «إليغ»، وجاب على طريقة جده ووالده – بلاد سوس وغيرها يدعو الناس إلى التمسك بتعاليم الإسلام الصحيح، ونبذ البدع والخرافات التي يلبسها الجهلة لباس الدين، ودرس وقتا غير قصير في زاويته وفي مدرسته علوما كثيرة شرعية ولغوية.
لقد نشرت هذه الأسرة شتى العلوم والمعارف بالمنطقة، وأسست المدرسة الإلغية سنة 1297هـ، حيث أصبحت – بالإضافة إلى زاوية هذه الأسرة وزوايا المريدين والأتباع – منارة علم وإشعاع يقصدها طلبة العلم من شتى الآفاق لينهلوا من ينابيعها الفياضة.
في هذا الجو المفعم بالعلم والمعرفة والزهد والصلاح، ترعرع محمد المختار السوسي، فحفظ القرآن الكريم على يد والدته السيدة «رقية» بنت الأستاذ العلامة «محمد ابن العربي الأدوزي»(1) ثم درس مبادئ اللغة والقراءة والكتابة في كتاتيب قريته والقرى المجاورة، إلى أن التحق «بالزاوية الإلغية» طالبا حيث أتم حفظ القرآن وأتقنه وهو في سن الحادية عشر مما وشحه إلى الانتظام في سلك طلبة العلوم الشرعية واللغوية انطلاقا من كتب ومنظومات كصحيح البخاري، ومختصر خليل، والشعر العربي الرفيع كقصيدة بانت سعاد، ثم البردة والهمزية وغير ذلك. وقد التحق في هذه الفترة بالإضافة إلى الزاوية الإلغية بالمدرية الإشعائية ثم البونعمائية، ثم التانكارتي.
بداية الانخراط في الحركة الوطنية.
رحل المختار السوسي بعد ذلك إلى مدينة مراكش طالبا العلم على علمائها «بمدرسة ابن يوسف» وغيرها، ثم ضد الرحال إلى «مدينة فاس» ثم «الرباط» عاصمتي العلم وموئل العلماء ورجال الحركة الوطنية وقادتها، فاتسعت آفاقه في العلم والسياسة، وتوطدت صلاته بعلماء وطلبة من جهات من المغرب، وفي هذا يقول: «في فاس استبدلت فكرا بفكر، فتكون لي مبدأ عصري على آخر طراز، قد ارتكز على الدين والعلم والسنة القويمة، فجشت بقصائد حية، وهناك تعرفت على تطوانيين فاضلين هما السيد الحاج عبد السلام بنونة، وأخوه الحاج محمد، ورباطيين فاضلين هما: الشيخ الأستاذ المكي الناصري، والأستاذ الحاج أحمد بلا فريج(2)، وكانا يردان علي في بيتي، وقد يبيتان معي فيه، كما عرفت هناك الأديب محمد ابن العباس القباج والحاج محمد الناصري الشاعر، وكانت الأفكار تتبادل، فكانت المدن الثلاث: فاس، والرباط، وتطوان مركز لتفكير في فجر المغرب الجديد، ومن هناك تمخضت الفكرة الوطنية المتركزة على الدين والأخلاق السامية، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد».(3)
وقد توج هذه العلاقات والصلات بمدينة فاس، بإنشاء جمعية ثقافية باسم «جمعية الحماسة» التي كانت – رغم طابعها الثقافي – مجالا لالتقاء رجال الحركة الوطنية وتبادل الآراء والتفكير في سبل مقاومة المستعمر.
ثم ينشئ جمعية سياسية أسند رئاستها إلى المرحوم علال الفاسي، وعن هاتين الجمعيتين يقول «فهذه هي الجماعة الأولى بفاس،وقد انتظم فيها آخرون، وشجعها آخرون ثم تمشت مع الزمان، فدار الزمان دورته فإذا بأفرادها أسسوا أسرا في 12 رجب 1344هـ/1926م جمعية سرية سياسية في أناس نفعوا المغرب علما وعملا... وزعيم هذه الجمعية علال».(4)
ويرحل إلى الرباط عام 1928م مستزيدا من العلم على شيوخ الوقت هناك وعلى رأسهم العلامة «سيدي المدني بن الحسني» والشيخ «أبو شعب الدكالي»، والشيخ «العربي السائح»... وقد كانت إقامته بالرباط وسط ذكريات لا ينساها.
ثم ما لبث أن رحل إلى مراكش مدرسا بالزاوية الدرقاوية – زاوية والده – والتي أصبحت مقرا للمدرسة الحرة التي أسسها، وكان يبث فيها أفكاره الوطنية، ويحرض طلبته على نبذ المستعمر ومقاومته، وفيها، أيضا كان يعقد اجتماعات سرية مع لعض رجال الحركة الوطنية بالمنطقة، فيزعج بذلك السلطات الاستعمارية التي تصدر عام 1937م أمرا بنفيه إلى «إليغ» مع مايعرف بالإقامة الإجبارية حيث منع من التحرك بحرية،ومنع من الالتقاء بالناس والحديث إليهم، ويتعرض لشتى أنواع المضايقات والاستنطاق والتهديد، ثم ينقل إلى معتقل تافيلالت.
وبعد رفع الحضر عليه والسماح له بالعودة إلى مراكش عام 1945م استأنف نشاطه العلمي والتوجيهي في مدرسته «بالرميلة»، ثم يرحل إلى مدينة الدار البيضاء التي كانت تعج برجالات الحركة الوطنية، وتنظم المظاهرات والعمليات التي تقض مضاجع المستعمرين هناك، وكان ذلك عبر دروس توجيهية في مسجد «الحفاري» ثم «المسجد المحمدي» المشهور بحي الأحباس، ولم يلبث أن امتدت إليه يد المستعمر حيث اعتقل سنة سنة 1952م رفقة صديقة الأستاذ «محمد الحمداوي» وآخرين، وتم نقلهم إلى معتقل «تافيلالت».
الحس الإسلامي في نضاله ضد الاستعمار:
هكذا بدأ العلامة محمد المختار السوسي انخراطه في جو العمل الوطني من المساجد ومدارس العلم، فإن العلم النافع هو ما هدى إلى الحق وحارب الباطل، وقد كان الاستعمار آنذاك أكبر باطل يخيم على البلاد والعباد، فكيف يسكت أهل العلم على الضيم والاحتلال، ومن تمام ذلك أن يقوم العالم بتوعية الناس وتنبيههم وشحذ هممهم، ويعمل في ذات الوقت على التعاون مع لمخلصين ممن قرروا الانخراط في العمل الوطني، وقد كان أكثر من تعاون محمد المختار السوسي معهم ووحد عمله بعملهم علماء وطلبة علم منهم: الزعيم «علال الفاسي»، «وإبراهيم الكتاني»، وصديقه «أحمد بلافريج»، «وعبد الله الجراري»، «وعبد الرحمن بن زيدان»، «وسعيد حجي»،و«أحمد نعنينو»، و«محمد الحمداوي»، و«المكي الناصري».
ولما كان قد ترعرع وشط المساجد ودور العلم، فإنه كان من أكثر الناس حبا واندفاعا لبناء تلك المؤسسات، لا لدورها الكبير في التعليم والتثقيف، ولكن أيضا لدورها الفعال في حماية الشخصية الوطنية والهوية الإسلامية واللغة العربية للشعب المغربي بعدما عمل المستعمر على النيل من تلك المقومات والثوابت، وحارب منابعها، وضايق أهلها، وحاصرهم بشتى الوسائل، وأصدر عقوبة السجن في حق كل من يبني مدرسة حرة تدرس فيها اللغة العربية كما يذكر ذلك الأستاذ «أبو بكر القادري».(5)
وهكذا يرجع إلى العلامة «محمد المختار السوسي» الفضل في بناء:
*المدرسة الحرة بالزاوية الدرقاوية، بحي الرميلة قبالة مسجد دكالة بمدينة مراكش.
كما أنه كان وراء إنشاء الجمعية الخيرية، والجمعية المشرفة على تأسيس مدارس حرة في أحياء مراكش.
* وكان رئيسا للجنة التي سهرت على بناء «مدرسة محمد الخامس» بروض العروس،وهي المدرسة التي
دشنها جلالة الملك محمد الخامس في شهر أبريل من عام 1950م، كما كان وراء بعث «المعهد الإسلامي» الشهير بتارودانت إلى حيز الوجود.
ولكنه كان في ذات الوقت يعلن بملإ فيه، أن منطلقه في عمله النضالي كان في سبيل الله، وأن جهاده لوجه الله، غايته تحرير البلاد والعباد من ربقة الاستعمار وسطوته، والحفاظ على هويته دينيا ولغة، وفي هذا يقول:«لا أزال متمسكا بمبدئي ومعرضا عن أي قيد، وأن كان مذهبا، فأنا مسلم وطني، لا سياسي وطني، فوطنيتي من إسلامي، لا بد أن إسلامي من وطنيتي».(6)
وحينما نقف عند هذه الحقيقة نفهم جيدا عنوان مقاله بالعدد الثاني من مجلة «دعوة الحق» «لنكن مسلمين أولا».(7) ففيه من الدلالات الشيء الكثير يدركها من له أدنى مسكة من العقل الحصيف، ونفهم أيضا تركيزه على التعريف بالحياة العلمية لسوس (8) وعطاءات علمائها الذين ظلوا طيلة قرون وقرون متشبتين بالإسلام منافحين عنه ناشرين له، مؤلفين في علومه وآدابه، ونفهم جيدا إيمانه العميق بالوحدة الترابية للمغرب، سواء تعلق الأمر بأقاليمه الصحراوية الجنوبية أم الشرقية، فالإسلام يأمر بالوحدة ويحث عليها، ولا يعترف بالشقاق والتنازع والفرقة، ولا يقبل ما يعمل على نقض عرى الوحدة وتفكيكها، ولهذا كتب في جريدة «صحراء المغرب» التي كان يصدرها المرحوم «علال الفاسي»، مقالا أثبت فيه بالأدلة والحجج الكثيرة أن منطقة «تندوف» جزء اقتطعه الاستعمار الفرنسي من بلادنا وألحقه بالجزائر.
وفي ذات الوقت كان يمقت النزعة الإقليمية الضيقة، والنعرة القبلية الممقوتة مما كان المستعمر يشجعها ويرعاها ويبثها لتفرقة الصفوف وإشعال نار الفتنة والتنازع.
كان المختار السوسي يومن بوحدة البلد، وبوحدة الأمة الإسلامية التي يربطها رابط أقوى من كل رابط آخر، نعم إن آصرة الدين تتقدم على آصرة الدم والقرابة والقبيلة واللهجة أو اللغة، ولهذا كان يقول: «إنني من الذين يرون المغرب جزء لا يتجزأ، بل أرى جميع بلاد الإسلام كتلة واحدة متراصة من شمال إفريقيا إلى أندونيسيا، لا يدين الإسلام الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة، التي هي من بقايا الإستعمار الغربي في المشرق، بل لو شئت أقول –ويؤيدني ديني فيما أقول- إنني أرى الإنسانية أسرة واحدة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى».(9)
1) توجد ترجمة العلامة «محمد بن العربي الأدوزي» في المعسول «للمختار السوسي» ج 5 ص 149-210، أما ترجمة ابنته السيدة رقية ففي ج3 ص39-56.
2) انظر ترجمته في كتاب رجال عرفتهم:«الحاج أحمد بلافريج «للأستاذ أبي بكر القادري». وكتاب رجال عرفتهم: الموقعون على وثيقة المطالبة بالاستقلال: له أسضا ص5-8.
3) الغلغيات 2/226.
4) الإلغيات 1/197.
5) في كتابه: رجال عرفتهم: الموقعون على وثيقة المطالبة بالاستقلال: ص159.
6) الإلغيات 2/188.
7) صدر العدد في ذي الحجة عام 1376هـ 1975م.
8) من ذلك كتابه الشهير المعول، وكتابه خلال جزولة وكتابه سوس العالمة وكتابه الالغيات.
9) سوس العالمة: ص:ح..
إرسال تعليق