لما تداعت
سلطة المرابطين في الأندلس، أقبلت الوفود الأندلسية المتعددة إلى المغرب تدعو عبد
المؤمن إلى الأندلس، وتستنصره للجهاد فيه. ممن وفد على عبدالمؤمن (وهو بمراكش)
القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي الإشبيلي، على رأس
مجموعة كبيرة من علماء إشبيلية لتقديم بيعتها إلى الموحدين، سنة
542هـ-1147م. ومن مآثر هذا القاضي الكثيرة أنه هو الذي شارك بماله لإصلاح
سور إشبيلية، حين توليه قضاءها (528هـ-1133م).
كان أول جيش
أرسله الموحدون إلى الأندلس سنة 541 هـ-1146، لإزالة ما بقي فيها للمرابطين من
سلطان، ثم خضعت مناطق أخرى للموحدين. ولما استقر الأمر لهم في المغرب، أولى عبد
المؤمن اهتماما أكثر بالأندلس. فعزم على العبور إليها ليشارك بنفسه في ترتيب
أمورها. وكتب إلى أهل الأندلس ليبتنوا مدينة في جبل طارق. فتم ذلك بعد أن
حشد ابنه أبو يعقوب يوسف الإمكانات اللازمة من المهندسين والعمال. وكمل بناء
المدينة في شهر ذي القعدة سنة 555هـ-1160م، بعد أن استمر العمل بها شهورا. في نفس
هذا الشهر عبر عبد المؤمن إلى جبل طارق. كان يوم عبوره مشهودا يصفه لنا عبد الملك
بن صاحب الصلاة في كتابه: "المن بالإمامة على المستضعفين":
"بأن جعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين" (أطلق على الجبل اسم
"جبل الفتح").
عاد
عبد المؤمن إلى المغرب، بعد أن أمضى مدة يرعى أحوال الأندلس، وينظم شؤونها، ووفر
حامية قوية من الموحد ين والأندلسيين. ومن الأمور التي اهتم بها الموحدون توفير
قوة دفاعية كافية للأندلس، وقد جعلوا غرناطة مركزا دفاعيا قويا حشدت لها
الإمكانات، كما نقلت العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة سنة 557هـ-1162م)، التي اعتبرت
مستقرا للجيوش الموحدية. ثم بدأ الخليفة عبد المؤمن يتجهز لرد عدوان إسبانية
الشمالية على الأندلس، فجهز جيشا ضخما، وسار به من مراكش العاصمة إلى مدينة
الرباط (رباط الفتح)، حيث بدأ تشييدها سنة 454 هـ-1150م. لكن عبد المؤمن مرض
المرض الذي توفي فيه، في اليوم العاشر من جمادى الآخرة (سنة 558هـ- 1163م)، بعد
حكم دام أكثر من 33 سنة.
وقد
بويع اثر ذلك لابنه أبي يعقوب يوسف، وهو في مدينة سلا، فأصدر أمرا إلى الجيوش
بالانصراف إلى بلادها، حتى يتخذ قرارا جديدا، فعاد هو والحاشية والأشياخ
وأصحاب الشأن إلى العاصمة مراكش.
وفي
سنة 560هـ-1165م عبرت حملة عسكرية إلى الأندلس لتعزيز دفاعات بعض المناطق
الأندلسية ضد إسبانية الشمالية. كما حدث صدام مع محمد بن سعد بن مردنيش ـ ومركزه
مرسية ـ الذي كان له صلاة مودة مع عدد من ملوك إسبانية الشمالية. وقد بلغ عدد
المرتزقة النصارى في جيشه ـ في لقائه مع الموحدين ـ ما يقرب من 13 ألف مقاتل. حارب
الموحدون، بعد أن تعاهدوا على الثبات والاستشهاد في سبيل الله. تم النصر للموحدين
في هذه المعركة التي عُرفت بـ(فحص الجلاب) على بعد 12 كلم جنوب مرسية، وتوفي ابن
مردنيش بعد ذلك.
اهتم
الموحدون بعد ذلك بتنظيم أحوال الأندلس في مختلف النواحي. وكتب الخليفة إلى
الأندلس يأمر المسؤولين فيه بالعناية بالبلاد، والاهتمام بأمور الرعية، وأن تكون
الأحكام جارية على سنن العدل، وأن ترفع أحكام الإعدام إليه مدون فيها الشروح،
وتقييد الشهود والعدول، مع تدوين حجج المظلومين. أما الجرائم الأخرى فلابد من التدقيق
فيها، وكذلك في سائر المعاملات.
خلال هذه
الأحداث كانت اعتداءات ملك البرتغال الفونسو انريكيث Al Fonso Enriquez تجد الفرصة السانحة لمهاجمة أراضي الأندلس واحتلال بعضها. وكانت
البرتغال حديثة الانفصال عن قشتالة وليون، إذ أعلن هذا الملك استقلال البرتغال حوالي
سنة (523هـ-1128م). ولضعف إمكاناته حين أراد الاستيلاء على أشبونة، استنجد
بالقوات الصليبية، المتجهة إلى المشرق من الإنكليز والألمان
والهولنديين. وبذلك أمكنه ـ بعد حصار طويل ـ الاستيلاء على المدينة، واستباحتها
سنة 542 هـ-1147م. ثم استولى على مدينة شنترين (Santarem). واستولى سنة 555هـ ـ-1160 م على ثغر منيع يعرف بقصر الفتح
أو قصر أبي دانس Alcacer do
Sal نسبة إلى بانيه أبي دانس، على بعد
94 كم جنوب شرق مدينة لشبونة.
تلت
ذلك سلسلة جديدة من الاعتداءات قام بها مغامر برتغالي بقوات كانت تابعة له، تطلق
الرواية الإسلامية عليه اسم "العلج جرانده الجليقي" (Geraldo Sem Pavor el
Gallego). وقد تمكن هذا المغامر من
احتلال بعض مدن غرب الأندلس. في تلك الأثناء قامت عدة اتصالات بين الموحدين
وبعض حكام إسبانية الشمالية، أدت إلى عقد معاهدة صلح مع فرناندو الثاني ملك ليون،
الذي خرق المعاهدة، وهاجم الأراضي الأندلسية سنة 570 هـ-1174م. وقد قامت
القوات الموحدية إثر ذلك بمهاجمة إحدى القواعد العسكرية التابعة لمملكة ليون
(تسميها الرواية الإسلامية السبطاط).
كان الخليفة
أبو يعقوب قد عبر إلى الأندلس سنة 566هـ-1170م على رأس قواته للقيام بأعمال الجهاد
في الأندلس، وقد التحقت به كذلك جيوش أندلسية، غير أن حملته لم تحقق النتائج التي
كان يطمح إليها. وقد استمر الخليفة في الأندلس خمس سنوات قبل أن يعود إلى العاصمة
مراكش سنة 571هـ-1175م. في تلك الأثناء شن النصارى عدة هجمات على
الأندلس، وهو ما رد عليه الموحدون سنة 578 هـ-1182 م، حيث وقعت معركة بينهم وبين
القشتاليين قرب طلبيرة. وفي سنة 580هـ-1184م، عبر الخليفة أبو يعقوب بجيش
آخر، اتجه صوب مدينة شنترين (Santarem) شمال شرق
لشبونة، ونازل النصارى في عدة معارك موفقة، لكن الخليفة أمر بالانسحاب فجأة قبل فتح
المدينة، وأثناء الإنسحاب باغثه العدو، حيث أصيب بجروح توفي على إثرها. حدث ذلك
في شهر ربيع الآخر (سنة 580هـ-تموز-يوليو 1184م). وقد بويع بالخلافة ولي
عهده وأكبر أبنائه أبو يوسف يعقوب الذي لقب ـ فيما بعد ـ بالمنصور، والذي عاد إلى
مراكش، لإخماد بعد التمردات الداخلية، قبل أن يبدأ العدة لمواصلة أعمال الجهاد في
الأندلس، حيث عبر المضيق من جديد سنة 586هـ- 1190م.
في تلك
الأثناء كانت الأندلس تعرف تطورات جديدة، حيث إن ملك البرتغال ابن الريق (الفونسو
انريكيث) توفي سنة (581 هـ-1185م) وخلفه ابنه شانجه Sancho I الذي بدأ يشن الغارات على الأندلس منذ سنة 585 هـ-1189 م. ساعدته
على ذلك ظروف المغرب، إذ انشغل الخلية المنصور الموحدي بإقرار السلم، كما
ساعدته الإمدادات الصليبية المتجهة إلى الشرق لنجدة الجيوش الصليبية
هناك.
استطاع شانجه
الأول احتلال مدينة شلب الأندلسية، بمساعدة السفن الصليبية التي تحمل آلاف
المقاتلين. ولم يكن ذلك ليتم بسهولة، بل إن المدينة، بعد ضرب الحصار حولها
والقيام بمحاولات عديدة لاقتحامها، ثبتت بقوة. وحين استطاع المهاجمون قطع
الماء عن المدينة اضطرت لطلب التسليم من شانجه الأول، بينما رفض حلفاؤه الصليبيون
ذلك، ورغبوا بقتل أهلها المسلمين جميعا، لكنه أقنعهم بالاكتفاء بسلب المدينة بعد
أن يتركها لهم أهلها بكل ما فيها. هكذا دخلوا المدينة ـ بعد حصار دام ثلاثة
شهور – (سنة 585هـ-1189م). غير أن الخليفة الموحدي الذي عبر المضيق في السنة
الموالية كما مر بنا، وبعد عدة محاولات نجح في استعادة شلب، وقصر الفتح (قصر أبي
دانس)، جنوب شرق لشبونة، قبل أن يعود إلى مراكش في رمضان من نفس السنة.
وفي سنة 1194
انتهت الهدنة التي كانت تجمع الموحدين بالقشتاليين، الذين بدأوا بمهاجمة الأندلس،
التي اضطر الخليفة للعبور إليها من جديد سنة591هـ-حزيران- يونيو 1195م) لمواجهة
قوات الفونسو الثامن في معركة الأرك التي حقق فيها المسلمون انتصاراً كبيراً، وقد
عاد الخليفة إلى مراكش سنة (594 هـ-1198م)، بعد القيام بعدد من الإصلاحات
والإنشاءات العمرانية. وفي السنة التالية توفي الخليفة المنصور، الذي خلفه ابنه
أبو عبد الله محمد الملقب بالناصر لدين الله، في وقت عاد فيه الفونسو الثامن إلى
عدوانه على الأندلس، مما دفع بالخليفة الجديد إلى العبور إلى إلى الأندلس سنة 607
هـ- 1211م، حيث وقعت مواجهة دموية عند حصن العُقاب سنة 609 هـ-1212 م. و كانت مع
ألفونسو جيوش صليبية من عدد من دول أوربة، التي تولى البابا أنوصان (أنوسنت الثالث
Inocent III) تشجيعها على المشاركة في حرب المسلمين في الأندلس.
وانتهى اللقاء بهزيمة جيش الناصر، وتشتت قوة الموحدين. وقد عاد الناصر إلى مراكش
حيث توفي سنة (610هـ-1213م)، ربما كمدا من نتيجة معركة العُقاب التي عدت نذيرا
بانحلال الدولة الموحدية وانهيارها.
خلف
الناصر ابنه بالمستنصر بالله، الذي عقد معاهدة سلم مع قشتالة بعد وفاة ملكها
الفونسو الثامن. لكن الأندلس خسرت في هذه الفترة بعض القواعد، منها قصر
الفتح (قصر أبي دانس) في شهر ربيع سنة 614 هـ-1217م ، التي استولى
عليها بيد ملك البرتغال الفونسو الثالث، بمساعدة أسطول الصليبيين الألمان
الذي كان متجها إلى الشرق. وقد تولى بعد ذلك بعدة سنوات، أبو محمد عبد
الواحد (المخلوع)، الذي خلع بعد شهر من اعتلائه العرش لتتم مبايعة أبي محمد عبد
الله الملقب بالعادل، الذي لم يعمر هو الآخر في الحكم إلا مدة قصيرة، حيث بويع
أبي العُلى الملقب بالمأمون، ثم ابنه أبي محمد الملقب بالرشيد (640هـ-1244م).
من كتاب تاريخ المسلمين في الأندلس (بتصرف)
د. محمد علي طقوس
دار النفائس، بيروت، 2008
إرسال تعليق