من القضايا الهامة التي تساهم نوازل ابن الحاج (ق 5 – 6
هـ) في تسليط النور عليها، أشكال الاستغلال الزراعي، وعلاقات الانتاج بين رب الأرض
والمُزارع المستأجر. وأول شكل نستشفه من هذه النوازل يتمثل في نطام المزارعة الذي
ساد كنمط من أنماط النظام الزراعي في بوادي المغرب والأندلس، لكنه طرح أحياناً بعض
المشاكل في علاقات صاحب الأرض بالمزارع الذي استأجره. مصداق ذلك نازلة وردت حول
"امرأة زارعت في حصة لها في قرية رجلاً، فقلب المزارع، فلما كان أكثر، أكرت
فلانة المزارعة هذه الحصة لمدة من عامين بعشرة مثاقيل، والعام الأول منها الذي
وقعت فيه المزارعة".
ويبدو من
خلال نازلة أخرى أن الشروط المعقودة بين مالك الأرض والمزارع كانت تحدد مسبقاً،
وإن بعض الملاكين ينيبون عنهم وكلاء لقبض حصصهم من الإنتاج المتفق عليه.
وعلى غرار
المزارعة، ساد البوادي المغربية ـ الأندلسية نظام المغارسة، وهو ما يُستشف من خلال
النوازل التي وردت بشأنه. وفي هذه الحالة يعهد رب الأرض إلى المُغارس بغرس الأشجار
وأنواع أخرى من الغلات الزراعية إلى أن يحين موعد جني الثمار فتقسم الحصة مناصفة
بين الطرفين. غير أن الكوارث الطبيعية كانت تضع المتعاقدين في مأزق قانوني كما
تشهد على ذلك بعض نوازل ابن الحاج.
وبالمثل ساد
أيضاً نظام المساقاة كشكل من أشكال الاستغلال الزراعي، وهو ما يتبين من خلال نازلة
وردت على ابن الحاج حول "امرأة وهبت زوجها رباعاً بمشجر فعقد فيه الزوج
مساقاة ببينة".
أما بالنسبة
لطرق استغلال المياه في البوادي، فتتضمن نوازل ابن الحاج نصوصاً ضافية حول
الموضوع، منها على سبيل المثال طريقة الانتفاع الجماعي لأهل القرية بالمياه التي
تمر على مزارعهم، وقسمة حصصها حسب احتياجات المزارعين، بحيث يستعمل كل واحد منهم
المياه في يوم من الأيام الأسبوع، وكانت هذه عادة متوارثة أباً عن جد.
بيد أن نوازل
ابن الحاج تكشف، عكس هذه العادة المحمودة، عن ظاهرة أخرى سادت بوادي المغرب
والأندلس، وهي ظاهرة النزاع حول المياه بين أصحاب الجنات ومالكي الأرحاء. وفي هذا
الصدد استفتاه القاضي عياض في عشرة مسائل تهم المياه، وأفتى في مشكل وقع من هذا
القبيل لصالح أصحاب الجنات، مبرراً حكمه بأن الثمار أولى بالمياه. ومن خلال الحجة
التي قدمها مالكو الأرحاء، يُستشف أنه كان من حق أصحاب الجنات استغلال المياه زمن
السقي والعصير، بينما كانت تعطى الأولوية في الأوقات الأخرى لأصحاب الأرحاء، مما
يعكس أحقية أصحاب الجنات في استغلال المياه.
لكنه أفتى في
مسألة أخرى لصالح ملاك الأرحاء الذين ادعوا بأن مجرى الماء يؤدي إلى إحداث الضرر
بالطريق، وأردف حكمه بأنه في حال ما إذا قام أصحاب الجنات بتحصين المجرى، يُصبح حق
استغلال المياه لصالحهم.
وفي نازلة
أخرى يبرز نزاع شجر بين بعض سكان القرية الذين كانوا يسكنون موضعاً عالياً، وآخرون
يقيمون أسفلهم. ويكمن سبب النزاع حسبما توضحه النازلة في أن القاطنين في الموضع
الأعلى غرسوا خضراً ومباقل وسقوها مع ثمارهم، فأضروا بالمقيمين أسفلهم، حيث قطعوا
عنهم الماء وجعلوه حكراً على سقي ثمارهم وخضرهم، فأفتى ابن الحاج بجواز استغلال
الطرف الأول المياه وسقي ما شاؤوا من ثمار أو خضر شريطة احترام حصصهم المعلومة.
ومن جملة
المشاكل الأخرى التي كانت تسود البادية حسبما تبينه نوازل ابن الحاج كذلك، مسألة
تجاوز بعض المزارعين حدود القرية التي زرعوا فيها إلى أرض قرية أخرى تجاورها
والقيام بحرثها، مما أدى إلى تضرر رب القرية التي تم التعدي عليها.
وكحصيلة لما
تقدم يمكن القول إن نوازل ابن الحاج تكشف أهمية الماء الذي شكل عنصراً هاماً من
عناصر الحياة البدوية في المغرب والأندلس، وأنه كان محور التوترات التي حدثت داخل
فضاء الحياة البادية، وأن هذا الأخير كان يحبل بنزاعات بين السكان بسبب التجاوزات
والاستحواذ على حقوق الغير.
إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي
والاجتماعي،
إبراهيم القادري بوتشيش،
دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، مارس 2002
إرسال تعليق