GuidePedia

0




بين يدي الرحلة يتوسع حقل البحت التاريخي يوما بعد يوم متجاوزا ما أوردته المصادر ذات الطابع التاريخي، وإن ظلت عمدة هذا البحت، نحو الاستفادة من مصادر أخرى في حقول معرفية عديدة كالجغرافيا والفقه والأدب والأنتروبولوجيا...

واستطاع البحث التاريخي، ولازال ماضيا، في استنطاق هذه المصادر من أجل الوقوف على ما تقدمه من جوانب تاريخية ضمن رؤية تسعى إلى مقاربة كل المواضيع التاريخية ومن جوانب مختلفة.



ويبدو أن الأبحات المونوغرافية المغربية، المبحثات حسب تعبير العروي، التي بدأت منذ حوالي نصف قرن ونوعت من مصادرها ومراجعها وبحثت في علوم أخرى للاستفادة منها، ساعدت على توسيع المادة المصدرية في البحت التاريخي، كما بدأنا نشهد محاولات تركيبية لتاريخ المغرب بواسطة مجموعة من الباحثين، حيت أصدر المعهد الملكي للبحت في تاريخ المغرب الذي يرأسه محمد القبلي مؤَلف " تاريخ المغرب تحيين وتركيب".
وكما تقدم الأحكام الفقهية، عبر النوازل، مؤشرات وعناصر تاريخية في عدد من الموضوعات ومنها الماء، تعد الرحلة مادة دسمة من حيت الإفادة التاريخية بما تتضمنه من معلومات تشكل بابا مفتوحا للتعرف على أحوال البلاد والعباد في فترات معينة، وهو ما يسمح بتوسيع الرؤية التاريخية ورسم لوحة حضارية أكثر دقة وموضوعية لتلك الفترة.

ويمكن القول أن الرحلة تتلون بهدفها فقد تكون علمية أو دينية أو ديبلوماسية أوجغرافية... إلا أنها في حالاتها جميعا تصبح معطى مشتركا بين الباحثين في مجالات التاريخ والجغرافيا والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع... لكننا نميزها هنا عن البعثات الديبلوماسية والعسكرية الأجنبية التي توجهت رأسا إلى القصر حيت مقر الحكم في المغرب.

في هذا الصدد تشكل رحلة شارل دوفوكو "Reconnaissance au maroc" 1883ـ1884، من الناحية المعرفية مادة جغرافية وتاريخية وأنتروبولوجية خصبة من حيت الكم والمعلومات ذات الطابع الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي... ، أما من الناحية السياسية فصاحبها لم يقصد أن يتصل بالسلطان المغربي، وبوزرائه مادام أنه كان يريد أن يتجول في المغرب بعيدا عن "الأجواء الرسمية".

وهي ـ أي الرحلة ـ وإن كانت من الجانب المنهجي تشير إلى ما وصل إليه علم الرحلة الفرنسي، فإنها تدخل ضمن استكشاف المغرب على حد تعبير الأستاذين عبد العالي الفقير وحسن البوبكراوي، بغرض وضع المناهج والأساليب الكفيلة بالهيمنة عليه، سعيا من صانعي القرار الفرنسي لوضع برنامج للسياسة الاستعمارية تمكن من إخضاع ما تبقى من شمال إفريقيا.
وبغرض مقاربة موضوع المصطلح المائي في رحلة دوفوكو من خلال كتابه المشار إليه أنفا، اعتمدنا ترجمة الأستاذ المختار بلعربي له والمؤرخة بسنة 1999، وسنحاول أن نتعرض في مقدمة هذا العرض إلى دوافع وأهداف الرحلة، على أن نسعى في المبحث الأول أن نحدد الرحلة موضع العرض في الزمان والمجال، ثم ننتقل في المبحث الثاني إلى وضع تعليقات قصيرة ودالة ترتبط بما وقفنا عليه من مادة مائية في المؤلف اعتمادا على قراءتنا المباشرة للنسخة المترجمة، ومتنورين بدراسة غير منشورة، للأستاذين عبد العالي الفقير والحسن بوبكراوي، أمدنا بها الأول حتى تكون لنا موجها أكاديميا في التعامل مع الكتاب.


مقدمة

هل كتاب شارل دوفوكو ذو طابع مائي؟ نظن ذلك. هل هو كتاب جغرافي؟ يمكن قول هذا. هل هو كتاب ذو طابع تاريخي؟ نستطيع أن نسمه بهذا الوصف. هل يتطرق لموضوع السكان؟ سيكون الرد بالإيجاب. هل .... إنه رحلة شاملة تطرح علاقة السكان بالمجال في أبعادها المختلفة.

تزامنت محاولات السلطان المغربي الحسن الأول(1873ـ 1894) لتدارك الخلل الذي عم البلاد حتى وصفه الناصري بقولته الشهيرة "واتسع الخرق على الراقع"، مع مساعي الدول الأوربية لبسط نفوذها على المغرب الذي فقد الكثير من مقومات قراره، فأصبح مفتوحا على كل الاحتمالات.
توجهت فرنسا بعد التفاهمات بين هذه الدول في سبعينيات القرن 19، إلى توجيه جهودها العسكرية نحو المغرب لاحتلاله واستكمال سيطرتها على شمال إفريقيا. فكان أن سعت إلى إسناد جهودها العسكرية بتقارير تجسسية لبست لباس "العلمية" حتى يسهل عليها تمهيد كل أجزاء المغرب وبالخصوص مجاله الصحراوي الغامض إلى حدود ما قبل رحلة دوفوكو. هذا المجال الذي كان أشبه بـ"مقبرة" للبعثات الذي جاءته مستكشفة مثلما وقع للضابط "فلاطيرس" سنة 1880.

ويمكن القول أن رحلة دوفوكو وسّعت الإدراك الفرنسي للمجال المغربي عموما والمجال الصحراوي على وجه الخصوص. حتى بات بعض الباحثين يقسمون معرفة فرنسا بالمغرب بما قبل وما بعد رحلة دوفوكو.

ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن الرحلة مكنت من التعرف على المغرب بشكل أدق في مستويات متعددة ومنها:
ـ طبوغرافية المغرب، واستعمل لوصفها عبارات دقيقة مثل فج،عرف، سهل، هضبة ، خانق...
-
الجريان المائي، ووقف فيه على الأسماء والمنابع وفترات الجريان وعمق المياه، ولونها،...
-
المعطيات البشرية (العناصر، العدد، السكن...)

ويمكن أن نضيف :
-
الغطاء النباتي (كثافته، نوعه،...)
-
بعض العادات والتقاليد.
-
المجال الديني (الأولياء، الزوايا، مجالات النفوذ...)
-
المأكل والمشرب.
-
أمن الطرق خاصة داخل ما يسميه دوفوكو كغيره من المستعمرين بـ"ببلاد السيبة".
-
الأسلحة.
-
الفلاحة، (أنواع المغروسات، المحصول، مجالاتها...)
-
التجارة والحرف...
-
المرأة العربية والحرطانية والشلحة.
-
الملابس التي كان يرتديها الحرطاني والعربي والأمازيغي وكذلك نساءهم، وأيضا الشريف والثري والفقير.
-
التنظيم الإداري (واحة تيسنت كمثال).

ويجب أن ننتبه أن تركيز الرحالة الفرنسي على المجال الصحراوي مرده إلى المعلومات القليلة عنه، باعتباره "مجال فوضى ولا أمن" ، ولهذا نراه في بداية رحلته يستعجل التوجه إلى المجال الصحراوي لاستكشافه. فعندما نزل بطنجة أولى محطاته المغربية قال "كنت أتعجل بمغادرتها" ، وهذا ما يدل على أنه يسعى وراء هدفه وهو التعرف على المغرب أو بالأحرى التعرف على ما لا يعرفه الفرنسيون بدقة في المغرب الذين باتوا جيرانا له من الشرق والجنوب.
إن رحلة دوفوكو "المعرفية" تتكشف دوافعها العسكرية/الاستعمارية من الاستعدادات التي سبقتها والاحتياطات اللازمة التي اتخذها صاحب الرحلة.

مكث دوفوكو الذي دخل إلى المغرب تحت اسم "يوسف الجزائري" كيهودي، سنة كاملة بالجزائر للتدرب على الرحلة، كما تعرف على العربية لتواصل أحسن مع المغاربة، ومن الأكيد أنه اطلع على خرائط البلاد التي ينوي خوض المغامرة فيها، كما اطلع على ما بخزانة الجزائر من كتب حول المغرب. الأمر الذي أهله أن يقوم برحلته بعد أن تلقى عددا من رسائل التوصية من "تيرمان" الحاكم العام للجزائر و"أرديكا" وزير فرنسا المقيم بطنجة، وهو ما يسَّر له الكثير من السبل وأنقده من عدد من المآزق التي وجد نفسه فيها أثناء الرحلة.

إن استخدام الرحالة الفرنسي لوسائل دقيقة في قياس المجاري المائية وتسجيل ملاحظات مفصلة حول الأماكن التي تنقل فيها، من حيت طبوغرافيتها وساكنتها وعاداتها والأسلحة المتداولة وعدد الفرسان... يعد دليلا أخر على الدوافع التجسسية للرحلة في المغرب، ويؤكد أن الرحلة كانت تقف وراءها خلفيات عسكرية.
ولقد مكنت الرحلة حسب هاردي من تصنيف المغرب إلى:
ـ مجال هضبي حيت تواجدت أراضي الزراعة والمغروسات وهي أماكن اختارها الأوربيون للاستيطان، وتوجد بما يسيميه محمد الناصري المجال المحلي "المغرب الأطلنتي" .
ـ مجال جبلي: وضع فيه الفرنسيون مراكز للتأطير قصد مراقبة السكان وضبط التحركات البشرية.
ـ مجال صحراوي: أنشأوا فيه مواقع استراتيجية لمراقبة السكان والتحركات القبلية.

إذا كانت دوافع الرحلة العسكرية تتخفى وراء ما هو علمي للوصول إلى معطيات دقيقة تسمح بالتحرك الجيد للقوات الفرنسية فإن الهدف العام كان احتلال المغرب واستكمال السيطرة على شمال إفريقيا. وطبعا كان لابد أن يتم هذا الاحتلال بأقل الخسائر البشرية بعد الضحايا الذين تكبدتهم في بعثات عسكرية سابقة.
ولتحقيق هدف التقليل من الخسائر البشرية في صفوف الجيش الفرنسي، جاءت الرحلة لتحديد الوقت المناسب للتحرك والتوقف، وتوضيح الإفادة العسكرية في أي عملية محتملة له في الأراضي المغربية، خاصة إذا علمنا أن الرحلة تحدثت بتفصيل عن أنواع الأسلحة واستخدماتها وعدد الفرسان والمقاتلين، وحركة الرياح، وأوقات فيض الأودية وجفافها في الأماكن التي زارها "يوسف الجزائري".

إن الرحلة شكلت بحق "حصادا معرفيا مهما" على حد تعبير الأستاذين الفقير والبوبكراوي، استحق عليها الرحالة المذكور "الميدالية الذهبية الأولى" مكافأة له على ما جمعه من معلومات شكلت طريقا سالكا للفرنسيين عند توغلهم في المغرب .

إن المؤَلِف زود كتابه بـ103 رسما طبوغرافيا تفسيريا بثَّها في ثنايا مؤَلفه حوْل كثير من المناطق التي زراها سواء كانت مجرى مائيا (مجرى واد إيناون) أو مدينة ( فاس البالي) أو جبلا (جبل تسفلت) أو ضريحا( ضريح محمد الشرقي)أو... والملاحظ أن الرسومات كانت أكثر في المجال الشمالي منه في المجال الصحراوي (27 رسم فقط) الذي يبدأ بفج تلغمت، لكن الكتاب جاء خاليا من الخرائط وتلك إحدى نقائصه . ولهذا أحسن الأستاذ بلعربي الذي ترجم الكتاب من الفرنسية إلى العربية سنة 1999، عندما أردفه بجزء ثان سماه أطلس الخرائط التي يوضح بعضها مسار رحلة دوفوكو، ويحدد المناطق التي مر منها.


المبحت الأول : رحلة دوفوكو في الزمان والمجال
1
ـ في تحديد الرحلة:

تشكل الرحلة صنفا أدبيا قائما بذاته في الفكر العربي الإسلامي، له مواصفاته وخصائصه التي تحكمه وينضبط إليها الرحالة، ويكون ملزما باحترامها. وأهم هذه الضوابط العدالة والصدق. فعلى الرحالة أن يكون صادقا في وصفه وعدلا في أحكامه. لا يزيد على أن يذكر ما شاهدته عيناه، حتى ينقل صورة"حقيقية" عما رآه، دون أن ينسى ما التزم به مع قارئه وهو وظيفة قارة تتمثل في"الإمتاع والمؤانسة" والحديث عن "الغريب والعجيب" وانفرد الرحالة المغاربة بما يسميه محمد الفاسي بـ"الرحلة السفارية" .

ورغم أن رحلة شارل دوفوكو تأتي في إطار منظومة مغايرة ـ مسيحية بالدرجة الأولى ـ فإنها حاولت أيضا التزام الدقة والتحدث عن كثير من المظاهر الغريبة في مغرب أواخر القرن 19، (تصور قبائل أيت بلال للمسيحين، وزينتهم، واهتمام الرجل بأولاده وتجاهله لزوجته، ومبدأ الصداقة المميز للمغاربة...) وأبدى تعجبه حولها لكن دون أن ينقاد في وصفها ويترك ما جاء من أجله وهو استكشاف المغرب وفق أهداف ومنهجية تعكس التطور الذي وصل إليه علم الرحلة الفرنسي.

وإذا اعتبرنا أن الرحلة "إنباء عن ذهنية الرحالة وتصوير لمكونات "الوعي الثقافي" عنده أكثر مما هي حديث عن البلد موضوع المشاهدة وإخبار عن القوم أهل البلد والإقليم موضوع الزيارة" سنكون أمام المستوى المتطور لعلم الرحلة الفرنسي، المستعين بعلم الطبوغرافيا وعلم الاجتماع وإتقان لغة أهل البلد، وتسجيل الملاحظات وتحديد المواقع وفق إحداثيات مضبوطة، والانتباه إلى أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكان، وذلك ضمن وصف وتدوين متناغمين مع أهداف الرحلة.

2
ـ زمان ومجال رحلة دوفوكو
2
ـ1 ـ زمان الرحلة

سيكون من الخطأ أن نحصر رحلة دوفوكو في زمان وقوعها أي خلال التاريخ الممتد من 20 يونيو 1883إلى 23 ماي 1884، مادامت أنها جاءت في سياق عام تميز باستمرار النهوض الأوربي مقابل التراجع المغربي في جميع المستويات، نهوض توخى البحت عن مجالات حيوية جديدة لاستغلالها اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا، وثقافيا...إن زمن الرحلة في اعتقادنا هو أبعد من التاريخ المحدد على عنوان الكتاب الذي يحكي تفاصيلها.

إن الاهتمام الأوربي بالمغرب بدأ قبل ذلك بكثير، واتخذ أشكالا مختلفة منها البعثات الدبلوماسية والعسكرية. ففي القرن 19 أرسلت فرنسا 9 بعثات، خمسة منها في أوائل القرن والأربعة الأخرى في الخمسة عشر سنة الأخيرة منه. وهـو ما يدل على الاهتمام المضاعف الذي حضي به المغرب في أخر 20 سنة الأخيرة من القرن 19. (لاحظ أن رحلة دوفوكو جاءت في هذه الفترة أيضا). أما مجموع البعثات الفرنسية إلى المغرب فقاربت الخمسين بعثة قبل وبعد القرن المذكور، في حين جاوزت البعثات البريطانية الستين بعثة.

إن الرحلات والبعثات الأوربية إلى المغرب في القرن 19، جاء ت في جزء منها لكشفه بعد أن أحجم سلاطينه العلويون عن زيارة الدول الأوربية، فانتقلت إليهم الحضارة الغربية ودخلت قصورهم مخلفة ردودا داخلها وفي محيطها .

وهكذا ففي الوقت الذي تكفلت فيه البعثات الديبلوماسية والعسكرية بإظهار القوة الأوربية ودرجة الرقي الحضاري الذي بلغته أمم الطرف الشمالي من البحر المتوسط للسلاطين والمغرب الرسمي، اهتمت الرحلات ومنها رحلة دوفوكو بالتعرف على "المغرب الشعبي" ضمن المجال المغربي في أبعاده المختلفة. فاهتم الرحالة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والتعليمية للسكان، وعوائدهم وأعرافهم وتحالفات قبائلهم وأنواع الصراعات الناشئة بينها وما يتحكم فيها. فعكس نقاط القوة والضعف في أوصافه ودقق في المعطيات الطبوغرافية وخصوصا فيما يتعلق بالمجاري المائية. كما رصد معاناة السكان في فترات الجفاف، والوضع الأمني بعدد من المناطق التي اخترقها (أنظر كتاب بين الزطاط وقاطع الطريق لعبد الأحد السبتي).

لقد جاءت الرحلة في فترة التقهقر المغربي الذي اختل معه ميزان القوى بشكل واضح لصالح الآخر الأوربي في القرن19. ويتضح من رسالة بعثها السلطان عبد الرحمان بن هشام (1822ـ1859) أن الأخير لم يكن يعترف أو يدرك هذا التغير في الوضع العالمي رغم أن الفرنسي كان على حدود المغرب الشرقية. فقد بعث رسالة إلى عامليه على الرباط وسلا بعد هزيمة إيسلي (1845) قائلا: "فالعدو قصمه الله في هوان وصغار وذلة واحتقار، فالمراسي معمورة والحمد لله بحاميتها والثغور مشحونة بعدَّة الحرب وآلتها، وكل عين أمامها أصبع ما تحركه في ناحية إلا ويلقى من أهلها خسارا" .

مافتئ هذا الخطاب "الواثق من نفسه" أن تغير بعد سنوات طويلة، اعتبرتها الباحثة ثريا برادة دليلا على الصمود المغربي . وتظهر مؤشرات هذا التغير/ الشعور بالإحباط في كلام السلطان الحسن الأول (1873ـ1894) الذي يقول "ومدة من خمسة أعوام ونحن ندافع ونسدد ونقارب بما يقتضيه الوقت والحال عملا بقول سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في وقائع وقضايا(سددوا وقاربوا) لإبقاء ما كان على ما كان، إذ لا أقل من ذلك سيما في هذا الزمان الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (يأتي على الناس زمان يمر فيه الحي على قبر الميت فيقول ليتني مكانك)" .

في هذه الفترة التاريخية التي بدا فيها المغرب منفعلا بغيره، متأثرا بالأحداث العالمية، غير فاعل في محيطه، وقليل التفاعل معه، فاقدا لكثير من مقومات التحكم في مجاله جاءت رحلة شارل دوفوكو لمزيد من استكشاف أرضه وأهله وأحواله بصيغة شمولية.

2
ـ2 ـ مجال الرحلة:

قد يكون الانطباع الأول لقارئ عنوان الكتاب Reconnaissance au maroc 1883-1884 أن مجال الرحلة هو المغرب كمجال موحد ساكن لا يخضع لتفاعلات ولا تنضوي تحته مجالات صغرى تتفاعل لتصيغ المجال الكلي أو صيرورة التراب الوطني حسب تعبير محمد الناصري .
إن المغرب الذي باتت حدوده الشرقية مهددة عندما جاورته فرنسا بعد احتلالها الجزائر(1831)، وهزيمته في معركة إيسلي، كان يعرف تفاعلات داخل مجاله لم تكن لتساعد على التوحد ضد الخصم على الحدود الشرقية. لقد سعى السلطان عبد الرحمان بن هشام عبر بعثات إلى تدقيق حدود المغرب الشرقية لكن فرنسا لم تكن ترغب في ذلك.

إن المجال الكلي المغربي حوى داخله مجالات أصغر، تميزت بحضور متفاوت لقوة المخزن فيها. هكذا نجد أن المجال الأطلنتي بما يتضمنه من سهول وهضاب تواجد فيه المخزن كما في مراسيه، رغم أن الأوربيون حاولوا تحييده وتسلم تسييرها من الإدارة المخزنية. وفي المجال الصحراوي كانت القبائل لا تزال تنتقل في مجالات شاسعة في إطار تنقلات كبرى ومنها من كان يدعم السلطان وأخرى كانت على علاقات سيئة بعماله.

إن الحضور المخزني بالمجال المغربي كان واضحا رغم اختلاف مستوياته في الأبعاد المحلية لهذا المجال، ولعل إدراك المؤرخين الكولونياليين لأهمية المجال المحلي من الوجهة الجيوسياسية هو مادفع "جورج هاردي" أحد منظري الإيديولوجية الاستعمارية إلى رفض تقسيم "المغرب النافع" و"المغرب غير النافع" مشددا أن لكل بقعة من المغرب كمجال كلي دورها في استتباب الأمر للحماية .

يقود اختلاف المجال المغربي ووضوح تجزئة ترابه إلى القول أن ذلك لا ينفي امتلاك المخزن لنظرة جيوسياسية إلى تفاصيله. فقد كانت له "القدرة على التصور الجيوسياسي للتراب الوطني" عبر شبكة من المراكز الحضرية والممرات الاستراتيجية. ولربما هذا ما يضحد مقولة" بلاد المخزن" وبلاد السيبة" التي رددها دوفوكو كغيره من نظرائه الفرنسيين لتبرير تدخل بلدهم في التراب المغربي.
المبحث الثاني: محاولة تعليق على المادة المائية في الرحلة

اهتمت رحلة شارل دوفوكو إلى المغرب بالتكوينات التضاريسية والمظاهر الطبيعية، وبالأوضاع السياسية والأمنية، وتحدثت عن المغاربة وأوصافهم في لباسهم ومشربهم ومأكلهم وعاداتهم وتقاليدهم وأمنهم وممارساتهم الدينية وأعرافهم(الذبيحة) وتطرق الرحالة لعدد الفرسان داخل كل قبيلة وقصر وعدد وحدات السلاح ومظاهر الغنى والفقر ومؤشراته...

وهكذا فصل في وصف أحداث ومظاهر وتصرفات وتعرض لاعتقادات وأنصت جيدا لخطاب الشيوخ وأفراد القصور، وتحدت مع الزطاطين وسمع من الحجاج، واعتمد الرواية الشفوية في التعرف على أمور دقيقة حرص على تسجيلها في دفتره الصغير 5x5سم الذي كان إلى جانب قلم الرصاص وبعض الألات وسائله المعتمدة في تجواله بين مناطق المغرب.

أسهب الرحالة في وصف مظاهر وأحداث، وأوجز في التعرض لأخرى، وعندما وصل إلى المجال الصحراوي كان مصرا على خوض بعض الطرق رغم صعوبتها لوصفها. ولم ينس أن يتعرض إلى ذكر الاختلافات بين الأغنياء والفقراء، كما اهتم برصد الاختلافات الجسمانية بين الشلوح والعرب والحراطين فنراه يقول عندما كان بواحة تيسنت أن "الشلوح والحراطين متوسطو القامة عادة جميلو الطلعة، أقوياء جسمانيا، رشيقون وقبيحو الوجه" وعن العرب يقول "يكاد يكون جميع العرب قصيري القامة، نحفاء المظهر،لهم ملامح جميلة"

عندما وصف دوفوكو جمال نساء الواحة اعتبر الحرطانيات أجملهن ومتفوقات على الشلحات التي لا يوجد بينهن إلا القليل من الجميلات، وعدد ملامح جمال الأوليات بقوله" تمتاز الحرطانيات أيام شبابهن بعيون كبيرة كثيرة الحركة والتعبير وببشرة متفتحة وباسمة وحركات مرنة ولطيفة" . هذا مثال فقط على مدى دقة الرحالة في وصفه. وهو لا يتأخر في قول "لم يعد لي شيء أسجله ..." عندما يكون قد أحاط بجميع المكونات وصفا.

ولابد أن نسجل كذاك أنه رغم هذه الأوصاف الدقيقة لمظاهر شتى ومختلفة من معاش المغاربة وأيامهم، فإنه لم يسمح لنفسه أن يصف طباعهم عندما قال "اهتممنا عدة مرات بلغات المغاربة وبعاداتهم وبتقاليدهم ولم نقل شيئا عن طبعهم، ذلك أنه يبدو لي أنه من الصعب أن يصيب المرء في هذا الموضوع".

لكن كيف كان وصف شارل دفوكو للماء ومجاريه؟

شكل عنصر الماء مادة حيوية في رحلة شارل دوفوكو إلى المغرب، فجاء كتابه حافلا بالوصف الدقيق للمجاري المائية ولتصريفها وجريانها ونوع مائها ومذاقه، وطبوغرافية أوديتها، وأفرد لها أوقاتا مهمة من رحلته لقياس عمق كل واد أو نهر وسرير كل منهما، بالأدوات التي حملها معه في رحلته. فجاء المؤلُّف مليئا بالقياسات الدقيقة وعلى سبيل المثال فقد أورد المؤلِف عددا من الخصائص بالنسبة للمجاري المائية تهم بالأساس:
ـ نظام الجريان
ـ تعمق الأودية
ـ قلة القناطر: إذ ذكر أنها لا تتجاوز 5 أو6 قناطر وقف عليها طيلة سفره، وهو ما اضطره إلى عبور الأودية التي ذكرها على رجليه.
ـ ذكر الأودية وبعض روافدها والأحواض التي تنتهي إليها.
ـ تعرض لبعض المصادر المائية الأخرى مثل المنابع والعيون ... كما أشار إلى بعض الأساليب التي انتهجها السكان لتخزين المياه مثل الصهاريج والنطفيات.

إن المؤلف لم يغفل في فترة الحديث عن المجاري المائية في المناطق التي يقطعها سواء وهو متجه من الشمال إلى المجال الصحرواي بعد أن اجتاز فج "تلغمت" أو عند عودته من هذا المجال باتجاه موكًادور حيت التقى المستشار "مونتيل" montel. وحتى عندما كان الرحالة يفتقد إلى ما يصفه كان يكتب ذلك بعبارة "لم أعبر أي مجرى مائي ذي أهمية تذكر" كما هو حاله عندما كان يجتاز أراضي بحاحا يوم24 يناير1884، أو يستعمل عبارة أخرى مثل " "اخترقت مجاري مياه ليست ذات أهمية" . وهو ما يدل أن جزء كبيرا من الرحلة كان يدور حول المجاري المائية مما يسمح لنا بالقول بأن القوة المستعمرة كانت بحاجة لمعرفة إمكانات المغرب المائية لاستغلالها في المجال الفلاحي خصوصا والاقتصادي عموما.

إن دوفوكو تنبه إلى بعض الأمور التي لم يكن يستسغها مثل غياب النشاط البشري أو مظاهر السكن بجانب الأودية، وخصوصا في المجال الصحراوي الذي يعد فيه ارتباط الإنسان بالماء أقوى وهذا ما دفعه إلى القول عندما كان بطاطا "من واد طاطا إلى القباب إنه خلاء مقفر"

وعندما يتقدم الرحالة في مجال قاطعا عدد من أوديته فانه بمجرد ما ينتهي من هذ المجال حتى يعمد إلى التذكير بالأودية التي اجتازها وهو ما فعله عند قطعه لأودية واد أديس، (واد عديس)، وواد طاطا، وواد فم مسكوه، وواد أزرفت ثم واد أقا...

ويتقوى هذا الوصف الجغرافي لأودية المغرب في الرحلة التي امتدت لحوالي السنة (من 20يونيو إلى 23ماي 1884) عندما يوظف الواصف منهج المقارنة بين الأودية والأنهار من حيت الاتساع أو قوة الجريان كما هو الشأن بين واد زكيد مع واد تيسنت. كما تمتد هذه المقارنة إلى المجاري المائية للأودية والأنهار بمقارنة مائها فينعتها بـ"الصافية" أو يصف لونها أو طعمها ، ومدى صلاحيتها للشرب

أشار الرحالة إلى أن بعض الأودية شكلت مكانا تجاريا مهما فأنشأ السكان أسواقا عليها كما هو الحال لسوق عديس على الضفة اليمنى لواد عديس، حيت يتاجر السكان في الحبوب والبهائم والخضر والثياب من قطن بيضاء وشي قليل من الشاي والسكر رغم أن النشاط التجاري كان ضعيفا.

لم يغفل الجندي السابق في الجيش الفرنسي أن يصف ويدقق في قياسات الأودية الجافة إذ حضيت باهتمامه، وهكذا يتحدث عندما كان متوجها من تيسنت إلى أفيكوراهن قائلا "اخترقت هذه الليلة، يقصد 12 يناير 1884، عدة مجاري مائية، كانت كلها جافة لكل واحد منها سرير من دمالك غليظة وأسواح مستقيمة من رمال وحصة، علوها إلى 1م إلى 2م".

أشار الرحالة الذي دخل بهوية جزائرية حاملا إسم "يوسف"، متنكرا في زي يهودي، أن بعض الأودية تواجدت بها ثروة سمكية كما هو الشأن لـ"واد زكيد" عندما وصفه بأنه "به أسماك كثيرة العدد". لكنه لم يشر إن كان السكان يصطادون هذه الثروة، مع العلم أن الوجبات الغدائية لإنسان المجال الصحرواي التي تطرق لها دوفوكو خالية من السمك .

إن النزاع حول الماء ظهر مند القدم واستمر في مجالات الندرة في هذه المادة، ويحتفظ لنا شارل دوفوكو بإشارة إلى الخصام حول الماء عندما يذكر أن قصور واحة تيسنت ، كانت "تنشأ بينهم بعض الخصومات: مسائل حول الماء في كثير من الأحيان" .

إن أنواعا من الماء شكلت في اعتقاد المغاربة في ثمانينيات القرن 19، وسيلة للعلاج خاصة إذا ارتبط بمجال ديني يمثل زاوية تواجدت بها المصادر المائية وأدارت مياهها، فهذه "ينابيع سيدي عبد الله ومحند كان يؤم إليها المصابون ب"داء خنزري" حيت يقضون بها ثلاثة أيام في الصلاة وتقديم القرابين وأن يستحم بها" .

بدأ دوفوكو الحديث عن الصهاريج في المجال الصحراوي انطلاقا من قبيلة إبرققن، قائلا" وسوف أصادفها، يعني الصهاريج، عند كل خطوة أخطوها على طول الطريق من هنا، قبيلة إبرققن، حتى موكدور" . يدل هذا الكلام فيما يعني أن الساكنة لجأت إلى تقنية الصهاريج لتعويض النقص الشديد في الماء وافتقادها للمجاري المائية. وسيعيد الحديث عنها وهو على مشارف موكدور بمنطقة حاحا بقوله " ما لهذه الأراضي العليا حيت تجمعت أكثرية المزروعات وسكن حاحا من ماء إلا ماء الصهاريج" . وقبل وصوله إلى المجال الصحراوي تعرض للحديث عن الصهاريج في مدينة بجعد قائلا" لا تتوفر بجعد على الماء بكيفية مرضية رغم مرور مجرى مائي بها إذ هذا الماء لا يصلح إلا لإرواء البهائم وسقي البساتين لبعض العائلات صهاريج لحفظ الماء..."

وتحدث الرحالة عن وسائل أخرى لتخزين الماء كالنطفيات، وذكر من الوسائل التي لجأ إليها المغاربة للتزود بالماء وقت رحلته، الأبار.


خاتمة
إن هذه الإشارات الى ما تضمنه الكتاب حول المجاري المائية خصوصا أو المادة المائية على العموم لا يعني أن الكتاب تطرق فقط لهذ الجانب من المعطيات الجغرافية، بل وأن كان ركز عليها فأنه جاء حافلا بمعطيات أخرى في نفس العلم مثل الغطاء النباتي والماشية، والفلاحات القائمة على ضفاف الأودية. وتجاوز الوصف المعطى الطبيعي ليمتد إلى السكان وعاداتهم وتقاليدهم وتدينهم ومعاشهم...

إن هذه الغزارة المعلوماتية هي ما تسمح بالقول أننا بصدد كتاب يمكن أن يؤتى من جوانب معرفية متعددة، حتى يمكن تنويع زوايا النظر إليه بما يسمح برؤية المجال المغربي بجانبيه الثابت والمتحول، والإجابة عن سؤال لماذا لم يكن المخزن المغربي قادرا على وقف الأخر وهو يتوغل في مجاله؟.

إننا نعتقد أن الكتاب، الذي أحببته كثيرا، يمدنا بكثير من المعلومات التي تسمح لنا بفهم الكثير مما سيأتي من الأحداث سواء تلك التي كان يخطط لها الأجنبي للهيمنة أو تلك التي كانت تعتمل داخل الجسد المغربي لتصيبه بكثير من الأمراض التي مافتئت يبدو أن استشرت فيه لتسقطه.

إن هذه المساهمة لا تغني عن الرجوع إلى الكتاب لإعادة قراءته متحررين من رؤية تاريخية ممجدة للذات وأخرى استعمارية تصورنا فاقدين للأهلية.

إن مجالات البحث في رحلة دوفوكو تسمح بالوقوف على إصرار الأجنبي على تسخير المجال المغربي بأي وسيلة، وتبرز التقدم الذي وصلت إليه العلوم العلوم ومنها علم الرحلة، مما يمكن عبر منهج المقارنة مع الواقع المغربي بالوقوف على الفوارق الكبرى التي كانت بين الضفتين عموما وبين بلدين كفرنسا والمغرب في نهاية القرن 19م.

إن الاطلاع على الجزء الثاني من الكتاب ضروي، وهو عبارة عن خرائط، بما يسمح من معرفة المسارات التي سلكها الرحالة في تنقله بين مناطق المغرب، ومن تم الوقوف على المسار العام الذي قطعه في رحلته التي دامت ما يقارب السنة. وهو ما سمح لنا بمعرفة هذه المجاري المائية التي وصفها أو مناطق توطن القبائل المستقرة والأماكن التي كانت تتنقل فيها القبائل الرحل.

عبد المالك البيار
طالب باحث

إرسال تعليق

 
Top